السلام عليكم احباءنا ورحمة الله. اهلاً بكم في حلقة اخرى من هذا البرنامج افتتحها بهذه التذكرة الوجيزة وغير البعيدة عن قصة هذه الحلقة بل والمستوحاة منها باعتبار ان قصة هذه الحلقة من مصاديقها...
تعلمون احباءنا ان عطاء الله تبارك وتعالى تارة يكون ابتداء واخرى استجابة لسؤال وهذه من اخلاقه عزوجل التي تخلق بها خلص اوليائه وصفوتهم ائمة الرحمة محمد وآله صلوات الله عليه وآله ومنهم مولانا الرضا عليه السلام.
هذه الحقيقة تنبه من له قلب الى سعة الرحمة الالهية من جهة وتعرفه بفظاعة الغفلة عن مثل هذا الرب وهو نعم الرب وعن مثل هولاء الاولياء وهم نعم الاولياء، فسلام على مولانا الرضا الامام الرؤوف.
عنوان قصة هذه الحلقة هو: تعال... لا شفيك.
وهي معدة مما نشرته مجلة زائر الايرانية في عددها الرابع والعشرين الصادر في آذار سنة ۱۹۹٦ .. نستمع معاً:
تعال ... لأشفيك
بمفردة يمضي الى الحضرة. كان قد قال لزوجته:
- اريد ان اروج الي الحضرة وحدي.
لم تبد المرأة اعراضاً على ما قال. كانت قلقة عليه، لكنها وافقت مضطرة. تبعته الى الباب تقرأ آية الكرسي، ثم قالت:
- بك يا الله... احفظه بجاه الامام الغريب.
لكن قلبها لم يجد الطمأنينة. ايقظت ولدها الاكبر من نومته ليتبع اباه الى الحضرة. اما الرجل فكان يمشي على قدميه يهتدي بعصاه على امتداد شارع الامام الرضا(ع)، ثم وصل الى ساحة فلكة البرق، وواصل مسيره تلقاء الحضرة.
كان الهواء بارداً. والريح الباردة - بزفيف هبوبها- تلامس بشرته، وحبات الثلج تهبط متناثرة على رأسه ووجهه. انه يستطيع ان يحس ببرودة الثلج ورطوبته، غير انه قد حرم منذ اشهر رؤية الطبيعة وما فيها من جمال. احدى عينيه كانت قد ذهبت بالجدري في ايام طفولته، وعميت الاخرى بغتة قبل شهور. كان يعمل في الورشة حين شعر بحرقة في عينه الصحيحة، وبلا ارادة منه فرك عينه، فازدادت الحرقة وتضاعف الالم. قعد على الارض من فرط المه. وتراءت له الورشة وعمالها كأنما ينظر اليها من وراء غبش داكن، واختلطت امامه الرؤية، ثم ضاعت الصور في عتمة حالكة. انه لا يرى الا ظلاماً مطبقاً يغطي كل ما حوله. ولما عاد الي المنزل عاد كفيف البصر لا يبصر اي شيء... لم يعد يميز حتي الضوء.
وبدأ الشقاء يغزو حياته ومشاعره، حتى ألقاه في دوامة الياس المرنحة، هائماً في صحراء الملح والعذاب.. الى ان كانت تلك الليلة، وكانت تلك الرؤيا الغريبة:
راقداً كان في الغرفة لما احس ببياض نور يتلامع من وراء اجفانه المغلقة. وغمر كينونته كلها دفء انيس. عاين وهو مغمض العينين شج نور امامه، وامتدت اليه يد نورية اخذت تداعب عينيه:
- لم انت يائس؟!
كان الصوت صادراً من داخل النور. كان الصوت يخاطبه.
قال: عيوني يا سيد، عميت عيوني... لا ارى، ماذا اصنع بهذه المصيبة؟! من اين ياتي الامل اذن؟!
مرة اخرى وصل الصوت الى مسامعه:
- تعال الي، ان باب الامل مفتوح.
ما اعذبه من صوت! انه صوت قدسي يأسر الاعماق، صوت ملكوتي يقطر طراوة وصفاء... سماوتي هو، هبة من فوق.
دخل الي الصحن، فطوى عصاه ودسها في جيب سترته السوداء. وراح يمشي متمهلاً بحذر حتى تقدم الى آخر الصحن، ثم انعطف الى الدهليز يساراً باتجاه صحن مسجد كوهرشاد. كانت حركته دقيقة وهو ينقل اقدامه بمهارة بحيث لم ينتبه احد الى انه مكفوف البصر. كان يحاذر ان يصطدم جسمه باحد او تركل رجله رجل غيره. دلف الي الكيشوانية حيث اودع حذاءه، ومضى مع جموع الزائرين الى داخل الحضرة.
كان قد مضى شطر من الليل، لكن الحضرة ما تزال مزدحمة بالزائرين، والموج البشري يتعاظم من حوله كلما ازداد تقدمه الى الضريح. وفقد في الزحمة سيطرته على حركته، وها هو السيل البشري يحمله تارة هنا وتارة هناك، فاسلم نفسه الى امواج الزائرين... كأنما تحققت له في هذا الاستسلام رغبة مكنونة في اعماقه يتفلت فيها من ارادته الواعية وينعتق من وجوده، حتى القته الموجات عند الضريح المقدس.
وقف الى جوار الضريح وامسك بقضبانه المشبكة، ثم شرع يمسح عينيه بالضريح. بكى في وقفته... بكى مستغيثاً بالامام الكريم، ناطقاً بلسان فقره العميق واضطراره الوجودي، فذهل عن نفسه ودخل فيما يشبه الاغماء:
انها ريح السموم... ريح مارة تنبعث من رمال ساخنة في عرض صحراء قاتلة، وتهب صافعة وجهه. اشتد به الظمأ، وتفطرت شفتاه. صرخ يطلب ماءً، لكن احداً لم يسمعه. ادار عينيه فيما حوله، فما رأى غير الرمال والارض القفراء والشمس اللاهبة. بالارض يائساً. كان يهمس مستغيثاً: «ايها الرضا... ايها الرضا» وهو يضرب جبهته بالرمال. وعلى حين غرة فاجأه ان يرى عين ماء بدأت تنبع من داخل الحفرة التي اوجدها ضرب جبهته. ما هذا الماء العذب الرائق الصفاء اضحك بغير ارادته، ثم صدرت منه صيحات فرح، وراح يرش الماء على وجهه وشفتيه. اعادته برودةالماء الى طبيعته. اغترف بيده غرفة وادناها من فمه وشرب، فقل اوار العش. واراد ان يغترف غرفة اخرى، لكنه شاهد ظلاً يلوح على صفحة الماء. رجل مديد القامة عريض المنكبين، عليه ثياب خضر... كأنما طول قامته يبلغ السماء. اما طلعته فما انور ما فيها من بهاء! وابتسامته.. كأن سماء ملأى بالنجوم تبسم له. انحني الرجل، وهبط من السماء الى الارض. امسك به الرجل من ابطه واقامه:
- قم.
فقام. اوما الرجل النوراني الى ناحية وقال:
- اذهب. اما وقد رويت فاذهب، فان زوجتك تنتظرك.
هوى على رجليه، واخذ يقبل يديه.
قلت: تعال، فجئت يا سيد.
- حسناً فعلت، اهلاً بك.
- اريد الشفاء ياسيد. انا عامل لي عيال، انهم بحاجة الى يدي المتخشنة هذه. وان لم اقدر...
- انت تقدر.
- اقدر؟!
- اجل، قلت تعال، لاشفيك... وقد شفيتك باذن الله تعالي.
- يعني انا...؟!
- قم، قم فان زوجتك واولادك ينتظرون.
فتح عينيه ... فوجد رجالاً يقفون حوله. كان احدهم يقبل وجهه ويلتمسه باكياً ان يعود الى وعيه. ميزه ... انه ولده:
- علي! اهذا انت؟! ما تفعل هنا؟!
تطلع علي الى ابيه بدهشة غير المصدق. ان اباه يرى! صرخ وراح يحتضن أباه:
- انت ترى! انت ترى يا أبتي!
ضم الاب ولده الى صدره، وقال:
- نعم يا ولدي... ارى، ببصر وهبني اياه الامام باذن الله تعالى.
خرج الاثنان من الحضرة كانت حبات الثلج تتراقص امام نور المصابيح المضاءة في الشارع وتهبط الى الارض. وكان الرجل يرقب الثلج بشوق واعجاب، كمن لا يرتوي ابداً من التفرج على هذا الجمال، وقلبه لا يكف عن شكر الله.
*******