البث المباشر

قصة الولادة المعجزة لمريم (عليها السلام)

السبت 25 ديسمبر 2021 - 12:57 بتوقيت طهران
قصة الولادة المعجزة لمريم (عليها السلام)

أراد الله لنا أن نعيش مع مريم (ع)، أن نعيش معها، لا لنتابع القصَّة بروحيّة الإنسان الذي يلهث وراء معرفة عقدة القصّة وحلّ تلك العقدة، ولكن لنجد هذه الإنسانة الطّاهرة النقيّة البريئة كيف عاشت هذه الأجواء

وكيف ثبَّتها الله فجعلها مثالاً للمرأة المؤمنة القويّة بالله، التي تتحدَّى مجتمعها من خلال أنها تملك الثّقة بنفسها وبالله، ولهذا، فإنها وقفت وقفة، إذا جاءها الضَّعف التجأت إلى الله لتأخذ القوَّة، وإذا خافت السّقوط أمام التحدّيات، انطلقت إلى الله لتأخذ منه ما يرفعها، لتقف قويّة أمام كلّ التحديات.

وهكذا نرى أنها كانت تنعزل عن أهلها، هل هو هاجس خفيّ أوحى إليها بالعزلة؟ أو أنها كانت تنعزل عن أهلها لتعبد الله سبحانه وتعالى وتبتهل إليه في عزلتها الروحيّة تلك؟

عندما انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً في عزلتها تلك، أرسل الله إليها جبرئيل (ع) الذي كثر الحديث في القرآن عنه أنّه الروح، أرسل إليها جبرائيل، فتمثل لها بشراً سوياً، وفوجئت به، هذا بشر لا تعرفه، والعذراء دائماً عندما تكون في وحدتها، وليس هناك أحد، ويتمثل لها بشر، تشعر بالرّعب أو الخوف، وتشعر بالخوف على نفسها بأن يعتدي عليها أحد. ولهذا قالت له: { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّ }[مريم: 18]، إن كنت تخاف الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تتحمّل مسؤوليّة وجودك أمامي الآن، إنّني قد أخاف منك، ولكنّني أستجير بالله ليحميني منك.

قال لها: لا داعي للخوف، وعندي مهمّة ستندهشين عندما تعرفينها { قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } لا لأبلِّغك رسالة، ولكن { لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّ }[مريم: 19].

وفوجئت هذه الإنسانة الطّاهرة، فوجئت البتول العذراء، فوجئت بهذه المهمَّة، إنها تعرف أنَّ الوليد دائماً يكون نتيجة علاقة، إِمَّا علاقة تعيش في ظلّ الزواج، أو علاقة تعيش في ظلّ الانحراف، ولهذا قالت: { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ }[مريم: 20 - 21]. القصة ليست هي ما يألفه النّاس، ليس هذا هو الطريق الوحيد لأن يولد إنسان، فقد ولد آدم من غير أب وأم، والله يريد لإنسان أن يولد بأم دون أب.ـعع

{كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. أراد الله، وإذا أراد الله فلا رادَّ لإرادته. لماذا هذا؟ {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ }، لينتبهوا إلى عظمة الله سبحانه وتعالى عندما يرون هذه المعجزة في خلقه {وَرَحْمَةً مِّنَّ}، لنجعله رحمةً منا يرحم الله النّاس به، يرحمهم من خلال رسالته، ومن خلال أخلاقه، ومن خلال روحيّته {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّ}[مريم: 21].

وهكذا كان الحمل بقدرة الله {فَحَمَلَتْهُ} وعندما عاشت هذا الجو فليس من الطبيعي أن ترجع إلى أهلها، {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّ}[مريم: 22] بعيداً، وبعد ذلك، مرّ زمان {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، وشعرت بهول الموقف الجديد؛ كيف تستطيع أن تستر نفسها عن أقاويل النّاس؟ إنّه يحتاج إلى تربية، إلى غذاء، إلى معاينة، إلى حضانة، هي لا تستطيع، وجاءها ضعف الأنثى وضعف المرأة الّتي تقابل التحدّيات بأقوى مما تتحمَّله، ولهذا قالت وهي وحدها ليس معها أحد {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَ} تجربة صعبة علي { وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّ }[مريم: 23].

ولكنها كانت في مرتفع {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَ}، ربما يقال إنّ المراد به جبرئيل، وربما يقال إن المراد به عيسى (ع) { أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّ }[مريم: 24]، حملت بقدرة الله، وأنت برعاية الله تضعين هذا المولود، فإذا لم يكن عندك غذاء وماء، وكنت تخافين على الوليد وعلى نفسك، فالله قد جعل تحتك سريّاً، ينبوعاً من الماء يتدفَّق.

وإذا أردت أن تأكلي أكلاً يعطيك القوَّة ليدرّ الحليب للوليد { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّ }[مريم: 25]، واشعري بالأمان، واشعري بالسَّلام.. قد لا تكونين تحت رعاية أب وأخ وأمّ، ولكنك تحت رعاية الله خالق هؤلاء كلِّهم {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنً}، كما تقرَّ عينُ الأمّ عندما تحمل بشكل طبيعيّ... قرّي عيناً بوليدك إذا خفت النّاس، والله يتكفل بالباقي { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّ }[مريم: 26]...

ألم يتحدّث الله إلى زكريّا { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزً }[آل عمران: 41]، كانوا ينذرون صوم الصّمت أن لا يتكلّم، كما ننذر أن نصوم ثلاثة أيّام عن الطّعام والشّراب والشّهوات، كانوا ينذرون أن يصوموا عن الكلام ثلاثة أيّام، وهذا ما علَّمه الله لزكريا، وأيضاً قاله لمريم: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّ }[مريم: 26].

ووضعته، ثم حملته {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} وفوجئ قومها، فمريم لم تتزوّج، مريم البتول العذراء، كيف يمكن أن يأتيها ولد من دون زواج { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّ }[مريم: 27] عظيماً { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّ }، كان أبوك إنساناً خيّراً، وكانت أمّك إنسانة طاهرة، كيف انطلقت في هذا الخطّ، من أين هذا الوليد وأنت لم تتزوّجي، هل هو إلّا ثمرة علاقة حرام؟!

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}، وثار حنقهم؛ هل تهزأ بهم؟ إنها لم تجبهم، تقول لهم تحدَّثوا مع هذا الطّفل، كيف يتحدَّث طفل لم يكن عمره إلَّا أيّام وساعات؟! ربما شعروا بالنقمة عليها، شعروا بأنها تهزأ بهم { قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّ }[مريم: 29].

ولم ينتظر عيسى (ع) أن يطول الجدال بين أمّه وبينهم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ}، وذهلوا لهذا الحديث {آتَانِيَ الْكِتَابَ}، وكأنه يريد أن يعطيهم الفكرة أنَّ الكتاب سيأتيه قطعاً، ولذا أخبر كأنّه شيء ماضٍ، أراد أن يعطيهم موقعه المستقبليّ بينهم، يتحدَّث إليهم في الموقع الذي يكون فيه رسولاً لله {وَجَعَلَنِي نَبِيًّ}، لست كبقيَّة الأطفال الذين ترونهم، أنا طفل من نوع آخر، لأنّ هناك حدثاً يريد الله أن يؤكّده.

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}[مريم: 30 - 31]. ما معنى المبارك هنا؛ هل معنى المبارك أنَّ عيسى كان يقف ليبارك الناس بيده، ليمسح على رؤوسهم، ليعطيهم البركة في الهواء؟ وليست البركة شيئاً يتحرَّك بهذه الطريقة، ولكنّ البركة تتحرّك من خلال فكر الإنسان وجهده وطاقته، فالعالم المبارك هو الذي يعطي البركة من علمه، والإنسان المبارك هو الّذي يعطي البركة من إنسانيّته، والشّجاع المبارك هو الذي يستخدم شجاعته في سبيل إعطاء النّاس قوّة، وفي سبيل إعطاء الحياة قوّة.

جعلني مباركاً أي نفّاعاً للناس، جعل حياتي لا تتجمّد في ذاتي، ولكنّها تمتد إلى الناس الآخرين، وتتحرَّك في حياة الناس، لأشعر بأنّ كلّ طاقاتي التي أعطاني الله إيّاها، هي طاقات لا بدَّ أن تتفجر في خدمة النّاس في كلّ شيء يحتاج الناس فيه إليّ.

{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}[مريم: 31]، سواء كنت مسافراً أو حاضراً، وسواء كنت وحدي أو مع الناس، في حال الشدّة وفي حال الرخاء، في حال اليسر وفي حال العسر، جعلني إنساناً أنفع النَّاس بكلّ خدماتي، ولكلّ حالة من حالات الحياة إمكانات وطاقات يمكن للإنسان أن يحركها. وبهذا، يريد أن يقول لهم السيّد المسيح (ع)، ويريد أن يقول لنا إنّ الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تكونوا مباركين، كما أراد مني أن أكون مباركاً، وذلك بأن تجعلوا كلّ عمركم في خدمة الناس، وفي خدمة الحياة، وفي خدمة الله، من خلال خدمة الناس وخدمة الحياة...

{وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} أوصاني بالصلاة لأظلّ معه، أوصاني بالصّلاة لأظلّ أتحدّث إليه، أوصاني بالصّلاة لأظلّ أهرع إليه في ساعات الشدّة وفي ساعات الخوف، أوصاني بالصّلاة لأعيش بين يديه، لأؤكّد أمامه عبوديتي له، وأؤكّد من خلال عبوديتي له حريتي أمام الكون كلّه وأمام الناس كلهم...

{وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّ}[مريم: 31] أوصاني بالزكاة، أن أعطي الناس من مالي، فزكاة المال أن تعطي بعضاً منه لمن يحتاجك، وأن أعطي الناس من علمي، وزكاة العلم بأن تعطي من علمك للنّاس ما يحتاجون إليه، وأن أعطي من جاهي، وزكاة الجاه بأن تستخدم جاهك في سبيل قضاء حوائج النّاس، وتفرّج كربات الناس، وأن تعطي زكاة قوّتك، وذلك بأن تسخِّر قوَّتك في سبيل حماية المستضعفين، وفي سبيل إعطاء القوَّة لكلّ من يحتاج إلى القوّة.

{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّ}[مريم: 32]... لم يجعلني جبّاراً أتحرّك مع الناس من خلال طبيعة الجبروت والطغيان والكبرياء التي أنظر فيها إلى الضّعفاء والفقراء والمحرومين والمسحوقين من فوق، لم يجعلني جبّاراً بما أملك من سلاح، أو بما أملك من مال، أو بما أملك من جاه، أو بما أملك من القوى التي أملكها، والّتي هي هبة من الله، وعلى الإنسان أن يعتبرها مسؤوليّة بين يدي الله، وأنّ الله يعطيك القوّة؛ قوة سلاح أو مال أو جاه أو سياسة أو غير ذلك، يعطيك القوّة لا لتكون جباراً، فإنّ جبار الجبارين يقسم الجبارين، ولكنّه يريدك أن تكون مسؤولاً...

{ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّ }[مريم: 33]...

وهكذا يعطينا عيسى (ع) الفكرة في أن يواجه الإنسان حياته كلّها من موقع أن يعيش السّلام الروحيّ في نفسه؛ سلامك مع الله أن لا يكون بينك وبين الله حرب، أن تكون نيتك وأن يكون فكرك وأن يكون شعورك وأن يكون ضميرك وأن تكون حياتك في سلم مع الله، لا تحارب الله بفكرك، ولا تحارب الله بشعورك، ولا تحارب الله بيديك ورجليك وكلّ ما تملك مما أعطاك الله إياه، كن في سلام مع الله، عندما تولد تتحرَّك في رحلة السّلام مع الله، وفي رحلة السلام مع الناس، وفي رحلة السلام مع نفسك، يوم ولدت تعيش السّلام، ويوم تموت تلتفت إلى حياتك، فترى أن حياتك كلها كانت سلاماً ومحبّة وخيراً وبركة للآخرين...

 

*من كتاب "من أجل الإسلام" للعلامة السيد محمد حسين فضل الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة