السلام عليكم اعزاءنا ورحمة الله وبركاته اهلاً بكم في حلقه اخرى من هذا البرنامج اعرض فيها لو سمحتم وقبل الاستماع لقصتها السؤال التالي: اي نسمة في هذا العالم لم تشم عبير الورد المحمدي؟
عبير الورد المحمدي منتشر في ارجاء الكون ... يحيط بنا... ينفذ الى قلوبنا اذا توجهنا اليه ويشفي صدورنا اذا استشفينا به، الورد المحمدي لا يمنع عطره الا من اذكم شامته برائحة اخرى ليس فيها عطر ولاعبير.
احباءنا قصة هذه الحلقة نشرت اصلها مجلة «زائر» في عددها السابع وقد وضع لها معدها لهذا البرنامج عنوان:
اماه، اشم عبير الورد المحمدي
كانت تتلهف لسماع صوت الموذن كي تقف وتصلي ... منذ امس لم تنطق بكلمة... وكانت ابنتها فائزة تبكي، لكن صوتها الواهن لم يكن ليتجاوز شفتيها الشاحبتين.
كانت الام تتطلع الي جمهور الزائرين ... الى الوجوه التي كانت تتضح شوقاً ومحبة، وتنبئ - في الوقت نفسه- عن المحنة والالم والاعياء.
أكان في وسعها ان تقول شيئاً في دوامة الافكار التي ما فتئت تنثال علي مخيلتها؟ لقد قدمت مساء امس الى امامها الرضا عليه السلام حافية القدمين، وهي تحتضن طفلتها المريضة، من اجل ان تجدد العهد لامامها الرضا (عليه السلام)، وتلثم اعتاب مرقده القدسي المحفوف بالملائكة...
كان الندي الربيعي قد بلل ملابسها، وكانت العبرات تتكسر في صدرها، والدموع تحتبس في مآقيها، اما يداها المرتعشتان فكانتا تضمان في حنان ولوعة جسداً نحيلاً تتصاعد حراراته لحظة فلحظة...
قفزت الى ذهنها فجأة ذكريات زادتها شجي وحزناً...
ورنت في اذنيها ضحكات طفلتها العزيزة الوحيدة «فائزة قبل أن ينشب فيها هذا المرض المجهول القاسي».
قال لها الاطباء قبل يومين انهم يئسوا من جدوى استمرار معالجة الطفلة، وذكروا لها ببرود ان عليها ان تستسلم للقدر، فاجابتهم بلهجة الواثق المطمئن: اعرف طبيباً لا يستعصي عليه داء!
ثم اختطفت - دونما تريث- طفلتها المسجاة من بين ايديهم، ويممت بها صوب الحرم المطهر، وقالت للجميع بثقة بأنها ستطلب شفاء ابنتها ممن لا يرد يد سائل، ولا يخيب رجاء آمل!
دوامة الافكار تلفها، ودوار ما برح يثقل رأسها المضني، ولم تكن تدرك ما الذي ينبغي عليها ان تفعل.
نهضت من جلستها والجسد الصغير الملتهب بين ذراعيها، فطافت بين صحن وآخر، كان قلبها مفعماً بالامل المشوب بالحيرة...
ما الذي ستفعل؟! وداهمها صوت الاذان كيد حانية تمسح على رأسها، وكقطرات مطر ربيعي ينعش وريقات الشجر المفتوحة الممدودة نحو السماء تستميح الكريم عطاءه!
وضعت طفلتها الصغيرة برفق، ودثرتها، ثم توجهت الى حوض الماء الذي يتوسط الصحن، فانتحت في زاوية منه ومدت يدها الى الماء فغرفت منه وشرعت بالتوضوء.. كان في الحوض وريقات من الورد المحمدي تتحرك مع حركة الامواج التي تولدها ايدي المصلين وهم يسبغون الوضوء للمثول بين يدي الخالق الكريم..
رفعت وجهها المبتل وتطلعت الي السماء. ثم صلت على النبي وآله ابواب الرحمة التي لا تغلق، ثم نادت الامام الرؤوف بشيعته وزائريه ومحبيه: «يا باب الحوائج!»، وتضرعت اليه ان يشفع لها بمقامه الكريم عند من بيده مفاتح الغيب.
مدت يدها المرتعشة واخرجت من حقيبة يدها سجادتها وملاءتها البيضاء، ووجهت وجهها لفاطر السماوات والارض... احست بضباب كثيف يلف وجودها... واحست بنفسها صغيرة صغيرة امام عظمة كبيرة لا نهاية لها... استغاثت بمن لا يسلم عبده، ولا يطرد من فنائه ضيفه، وتشفعت لديه بالامام الرؤوف العطوف. وهاجمها سيل الذكريات من جديد... احست بحرقة تجتاح كيانها... ابتلعت ريقها بصعوبة وكبرت بخشوع ودخلت في الصلاة.
عندما اتمت صلاتها احست بشعور غريب لم يسبق ان شعرت به من قبل... احست ان كل شيء حولها جديد، جديد كأنها لم تره قبل الآن قط، كان الشوق الجارف لزيارة الامام الرضا عليه السلام يعصف بها... هرولت - دون ان تجمع سجادتها- الى الشباك الحديدي الكبير وشقت امواج الزائرين وتعلقت بحلقات الشباك... السلام عليك يا علي بن موسي الرضا... لا تذكر بالضبط كم طال كلامها مع الامام، وكم ذرفت من دموع الرجاء والتضرع والتلهف... لا تدري غير ان اقدامها المكدودة اكتسبت قوة وتماسكاً، وان منديلاً اخضر مضمخاً بالعطر وضع بين يديها الضارعتين... وان هاتفاً هتف بها ان تهرع الى طفلتها فتبسط المنديل المعطر الاخضر علي بدنها الملتهب... غطت بدن الطفلة النائمة وهتفت من جديد: ايها الامام الرؤوف!
طاف بالصحن المطهر عطر الورد المحمدي... وارتفعت اصوات الزائرين بالصلوات علي النبي وآله، ولحظت وهي دهشي اعين ابنتها براقةً متألقة، وشفتيها باسمةً ضاحكة، وسمعت - ويا للعجب!- صوتها ينادي في نغمة ملائكية محببة: اماه! اشم رائحة الورد المحمدي!
هتفت بطفلتها. انهضي يا طفلتي الحبيبة! فنهضت الطفلة ومدت يديها لتعتنق امها...
كانت السجادة ما تزال مبسوطة على ارض الصحن المطهر... لم تنطق الامام بحرف... انحنت على الارض فلملمت بحركة سريعة سجادتها... وتأملت وجه طفلتها... كانت النضارة تضج في كل خلية من خلاياه... كانت الشفاه الذابلة قد ارتوت بماء الكوثر، وكانت الوجنات الشاحبة قد تلونت بلون الورد، وكانت الاعين التي صادرت بريقها آلام مرض لا يرحم قد منحها الربيع ومضه وبريقه وتلألوه... لقد حسبت الام ان ابنتها لن ترى الربيع الذي كان يطل على الارض، ويبعث بامطاره ونسائمه رسلاً تترى تبشر الارض الغافية التي صعقها البرد انها ستكتسي بالزهور والرياحين.
نهضت الام، وتوجهت الى حوض الماء... كانت وريقات الورد المحمدي ما تزال تتحرك فيه وتدور ... اغترفت من الماء بقدح من الاقداح المنثورة حول محل شرب الماء، وانتشلت بيدها عدداً من اوراق الورد المحمدي والقتها في الماء... ثم حملت القدح الى الزائرين الواقفين عند الشباك الحديدي يتوسلون الى الرب الودود، مستشفعين بريحانة من رياحين النبوة... ونسمة جليلة من سلالة شريفة لا اقدس منها ولا اطهر... وسليل بيت عريق في الشرف والكرم اذن الله له ان يرفع... و امام لا يخيب من رجاه، ولا يؤيس من حط رحله بفنائه.
*******