اختلفنا على "الشرق الأوسط" وحروبه، و"البريكسيت" أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووضع أوروبا وبريطانيا السياسي والاقتصادي بعده، مثلما اختلفنا أيضاً على قضايا دولية أبرزها الحرب التجارية، ولكن المفاجأة أننا اتفقنا جميعاً على أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيواجه ضغوطاً ضخمة منذ اليوم الأول من العام الجديد، واحتمالات طرده من البيت الأبيض مداناً بتهم عديدة على رأسها الفساد والمحسوبية، وتضليل الرأي العام الأميركي، والسياسات الخارجية الفاشلة، أكبر بكثير من احتمالات بقائه، حيث من المقرر أن يقدم المحقق الأميركي روبرت مولر تقريره النهائي حول "تواطؤ" ترامب مع التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بينما يستعد الديمقراطيون الذين سيسيطرون على مجلس النواب لفتح ملفات فضائحه الجنسية والمالية، وتهربه وصهره جاريد كوشنر من الضرائب، وتنظيم جلسات استماع قد تشمل استدعاءه للمثول أمامها بشكل مهين.
ترامب يخطط لخوض معركة من فصلين، الأول أن يترك تأثيراً إيجابياً في واشنطن بتنفيذه لوعوده الانتخابية، اعتماداً على بعض إنجازاته الاقتصادية مثل تحفيز معدلات النمو، وتخفيض معدلات البطالة إلى النصف (4 بالمئة)، أما الثاني فهو الفوز بولاية رئاسية ثانية، ولكنه قد يفشل في الحالين، لأن احتمال سحب الثقة عنه في مجلس الشيوخ والنواب في الأسابيع القليلة القادمة تبدو كبيرة جداً، وقد يتم التوصل إلى تسوية تقضي بمغادرته السلطة مقابل التمتع بحصانة قانونية ضد أي ملاحقات مستقبلية.
انهيار بورصة "وول ستريت" بأكثر من ثلاثة آلاف نقطة في أيام معدودة، وتوقعات معظم الخبراء بأن هذا الانهيار لن يتوقف، في ظل حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها الولايات المتحدة حالياً بسبب سياسات ترامب الحمقاء المتهورة، دفعت الكثير من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى الانتقال من خندق الحياد، إلى خندق المعارضة، والمواجهة له، والخوف من هزيمة ساحقة للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، تتواضع أمامها هزيمة الجمهوريين وفقدهم الأغلبية في مجلس النواب في الانتخابات النصفية الأخيرة.
انهيار أسهم مؤشر "داوجونز" في بورصة "وول ستريت" خطير لأنها تمثل خسارة كبيرة ليس لطبقة رجال الأعمال والطبقة المتوسطة، التي تشكل محور اهتمام نسبة كبيرة من المساهمين والمستثمرين، فيها، والحال نفسه يقال عن صناديق التقاعد التي تستثمر نسبة كبيرة من أرصدتها فيها، وهؤلاء يشكلون جميعاً القاعدة الرئيسية للناخبين الجمهوريين، والديمقراطيين أيضاً وأثريائهم خصوصاً.
أما إذا انتقلنا إلى منطقتنا، أي الشرق الاوسط، فإن التخبط هو العنوان الأبرز لسياسات ترامب طوال العامين الأولين من رئاسته، فـ"صفقة قرنه" خلقت من المشاكل أكثر مما قدمت من حلول، ومن راهن عليهم لتسويقها وأبرزهم الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، يواجه تهديدات خطيرة قد تطيح به من منصبه أبرزها مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وفشل الحسم عسكرياً في اليمن، قراره بسحب قواته جميعاً من سوريا (2200 جندي) ونصفها من أفغانستان (14 ألف جندي) لم تؤكد هزيمته وانهيار مشاريعه فقط، وإنما قلصت شعبيته، وهزت هيبته، في أوساط المؤسستين السياسية والعسكرية الحاكمتين في الولايات المتحدة.
الزيارة الأخيرة التي قام بها ترامب إلى قاعدة "عين الأسد" في العراق لقضاء أعياد الميلاد وسط جنوده، واستغرقت بضع ساعات، جاءت تأكيداً على ما نقول، فترامب الذي قال إن بلاده أنفقت سبعة تريليون دولار في الشرق الأوسط، من بينها خمسة تريليونات في حرب العراق وحدها، تسلل إلى القاعدة الأميركية المذكورة آنفاً مثل اللص، ولم يبلغ القيادة العراقية بموعد وصوله مطلقاً خوفاً على حياته، ورفض أن يلتقي الرئاسات العراقية الثلاث في بغداد للسبب نفسه، وقد أحسنت هذه الرئاسات صنعاً عندما عاملته بكل احتقار، مما يؤكد أن العراق الذي يمهد للانضمام بقوة إلى محور المقاومة يتعافى، ويريد تصحيح مساره، والعودة إلى حاضنته العربية، أو هكذا نأمل.
تصوروا أن تنفق الولايات المتحدة سبعة تريلونات دولار في حروبها في منطقة الشرق الأوسط، ولا يستطيع رئيسها زيارة بغداد من الباب، خوفاً على حياته، وبعد 15 عاماً من انتهاء الحرب العراقية، وادعاء دولته النصر فيها؟
ترامب انهزم في سوريا وأفغانستان واليمن وليبيا، وسيضطر مجبراً على سحب قواته يجر أذيال الخزي والعار، وها هم حلفاؤه في دول مجلس التعاون الذين راهنوا على نجاحه وبلاده في تغيير النظام في دمشق يهرولون إلى العاصمة السورية طلباً للعفو والغفران ولإعادة العلاقات وتقديم التعهدات والوعود بالمشاركة في إعادة الإعمار، ولا نستبعد أن لا يطول بقاء القوات الأميركية في العراق (5500 جندي) أيضاً، خاصة بعد إعلانه بأن قواعد بلاده فيه (أي العراق) ستستخدم في شن ضربات جوية ضد "الإرهاب" في سوريا، وربما إيران أيضاً، الأمر الذي يؤكد الغباء والجهل بالتغييرات المستجدة في المنطقة أولاً، والرفض المطلق لأي انتهاك للسيادة العراقية.
الزميلة البريطانية التي تكتب مقالاً أسبوعياً في أكبر صحيفة بريطانية محافظة (ديلي تلغراف)، عارضت سحب ترامب قواته من سوريا و"الشرق الأوسط" لأن هذا يعني تسليم المنطقة لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، فكان ردي "ولما لا" لم نحصل كأبناء المنطقة من الهيمنة الأميركية التي استمرت نصف قرن تقريباً غير الحروب ونهب الثروات، ولن تكون الهيمنة الروسية أكثر سوءاً، وهي على أي حال جاءت بعد تقديم التضحيات وبناءً على دعوة رسمية مثلما هو الحال في سوريا، ونتيجة للعنصرية والغطرسة الأميركيتين وهزيمتهما في ميادين القتال.
ترامب طرد أكثر من عشرين مسؤولاً مهماً في البيت الأبيض آخرهم جيم ماتيس، وزير الدفاع، ونعتقد أن الدور زاحف بسرعة لكي يشرب من كأس الطرد نفسه، وعلى يد الكونغرس، ولهذا يرتجف حليفه بنيامين نتنياهو رعباً وخوفاً، وكل حلفائه العرب الذين راهنوا عليه، وطبعوا العلاقات معه، ونحن نتحدث هنا عن الأخير، (نتنياهو)، وتابعه كوشنر.. والأيام بيننا.. وكل عام وأنتم بألف خير.
عبد الباري عطوان