من الواضح أنّ هذه الهجمات التي اتّسع نِطاقها في الأسابيع الأخيرة، ويُرجّح أنّ فصائل تابعة للحشد الشّعبي العِراقي تَقِف خلفها، تأتي في إطار استراتيجيّة جديدة تهدف إلى إجبار الولايات المتحدة على تفكيك جميع هذه القواعد، وسحب جميع قوّاتها من العِراق وسوريا، على غِرار ما فعلت في أفغانستان في الأيّام القليلة الماضية.
الرئيس السوري بشار الأسد اعترف في ردّه على أحد الأسئلة التي وجّهتها إليه محطّة تلفزيونيّة روسيّة، قبل عامٍ ونصف العام حول كيفيّة تعاطي حُكومته مع احتِلال قوّات أمريكيّة لآبار النّفط والغاز السوريّة شرق دير الزّور، قال ما معناه “إنّ الولايات المتحدة دولة عُظمى يَصعُب على قوّاته العسكريّة الدّخول في حربٍ ضدّها الآن خاصّةً في ظِل انشِغالها في حربٍ داخليّة لاستِعادة سيادة الدّولة على أراضٍ يُسيطِر عليها الإرهابيّون، ولكن هذا لا يعني عدم تشكيل فصائل مُقاومة للقِيام بهذه المَهمّة من أبناء المنطقة في المُستقبل القريب لطرد القوّات الأمريكيّة”.
من غير المُستَبعد أن تكون هذه الهجمات المُتزايدة على القواعد الأمريكيّة في “حقل العمر” النّفطي السوري الأضخم في المنطقة هي بداية حرب عِصابات تشنّها فصائل سُوريّة مُكوّنة من أبناء القبائل العربيّة في المِنطقة على غِرار، وبالتّنسيق مع قوّات الحشد الشعبي العِراقيّة على الجانب الشّرقي من الحُدود بين البلدين.
إدارة الرئيس الأمريكي السّابق دونالد ترامب أنشأت هذه القاعدة العسكريّة لحِماية حُقول النّفط والغاز، وأوكلت مهمّة استِغلالها وتسويق إنتاجها من النّفط والغاز إلى شركاتٍ إسرائيليّة، واقتِسام العوائد الماليّة مع "قسد" في شِمال شَرق البِلاد.
فبينما تُعاني الحُكومة الرسميّة السوريّة وحواليّ 20 مِليون مُواطن سُوري من شُحٍّ كبير من الموارد النفطيّة، يقف أصحاب السيّارات بالسّاعات أمام محطّات الوقود للحُصول على كميّةٍ قليلة منه بسبب احتِلال هذه الآبار، والحِصار الأمريكي الخانق (قيصر) يتَمتّع الانفِصاليّون الأكراد بخَيرات هذه الآبار وحدهم، وبدَعمٍ وحِمايةٍ أمريكيّة وربّما إسرائيليّة أيضًا.
إدارة الرئيس بايدن التي توصّلت إلى العديد من “التّفاهمات” مع نظيرتها الروسيّة في المِلَف السوري في الأيّام القليلة الماضية، وآخِرها الاتّفاق على مُرور المُساعدات الإنسانيّة إلى سوريا عبر معبر باب الهوى الذي تُسيطِر عليه جماعات إرهابيّة في إدلب، تُمَهِّد لتقليص خسائرها، والانسِحاب من سورية والعِراق على غِرار ما فعلت في أفغانستان، وفي إطار استراتيجيّتها الجديدة للانسِحاب التّدريجي في مِنطقة الشّرق الأوسط برمّتها، للتّركيز على الخطر الصّيني المُتصاعِد على حِساب نُفوذها في شرق آسيا والعالم بأسْرِه.
فصائل المُقاومة السوريّة العِراقيّة المُشتركة ستُجبِر الولايات المتحدة على الهُروب مَهزومةً من الأراضي السوريّة والعِراقيّة في الأشهر المُقبلة حتمًا، وهُناك مُؤشّرات عديدة تُؤكّد أنّ هجماتها المُقبلة قد تَستهدِف إيقاع خسائر بشريّة في صُفوف القوّات الأمريكيّة المُتَمركزة في هذه القواعد على غِرار ما حدث في عاميّ 2009 و2010 عندما بلغت المُقاومة للقوّات الأمريكيّة المُتواجدة في العِراق ذروتها عندما كان يقودها الجِنرال بترايوس، ولَعِبَت الحُكومة السوريّة دورًا كبيرًا في دعم هذه المُقاومة بالرّجال والسّلاح معًا.
الإدارة الأمريكيّة ستتخلّى حتمًا عن الإدارة الذّاتيّة الانفِصاليّة غير الشرعيّة في شِمال سورية تمامًا مثلما تخلّت عن عُملائها في أفغانستان، بعد احتِلالٍ استَمرّ عشرين عامًا، وها هي حركة طالبان تستعيد أكثر من 85 بالمِئة من أراضي البِلاد، وتستولي على 250 إقليمًا من مجموع 290 إقليمًا، وباتت حُكومة الرئيس أشرف غني الفاسدة والعميلة لا تتواحد إلا في العاصمة كابول وبعض المُدن الصّغيرة الأُخرى.
أمريكا ستتخلّى عن قوّات سورية الديمقراطيّة والإدارة الكُرديّة التّابعة لها، مثلما تخلّت عن الحُكومة الأفغانيّة، وجيشها الذي يزيد تِعداده عن 300 ألف مُقاتل، بدأوا يُلقون سِلاحهم ويهربون بالآلاف إلى دول الجِوار، أو حتّى إلى المناطق التي تُسيطِر عليها حركة طالبان، فالمَسألة مَسألةُ وَقتٍ فقط.
المُصيبة الكُبرى أنّ “الأشقّاء” الأكراد لا يتَعلّمون من دُروس التّاريخ، سواءً الدّروس المُتعلّقة بهم، حيث تخلّت عنهم أمريكا أكثر من مَرّةٍ ودفعتهم لمُواجهة مصيرهم وحدهم، بعد أن استنفذت أغراضها منهم، أو من نُظرائهم في أفغانستان (لإخراج القوّات الروسيّة) أو جنوب آسيا عُمومًا ولا نفهم لماذا الإصرار على الثّقة بالأمريكيين والإسرائيليين مَرّةً بعد أُخرى.
أمريكا هُزِمَت في العِراق وسورية وكُل مِنطقة الشّرق الأوسط وخَسِرَت حواليّ ستّة تريليون دولار وخمسة آلاف جُندي في العِراق وحده، وستُهزَم في سورية ويُوَلِّي جُنودها الأدبار، وسيعود النّفط والغاز السوري إلى الدّولة السوريّة وكُلّ الشّعب السوري دُون نُقصان.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان - الرأي اليوم