فقد سدت نوافذ الحياة عليه وحفّت به المصائب والمصاعب من كل جانب، فجمع هارون الطاغية كل ما عنده من لؤم وغضب وبغض وصبها عليه دفعة واحدة؛ من تكبيل بالقيود، وزج في السجون، ومراقبة بالعيون خوفاً من العطف عليه، فنكل بكل من أكرمه ورعى جانبه، حين جلد الفضل بن يحيى مائة جلدة، وأعلن سبه وشهّر به لأنه لم يضيّق عليه.
لقد أصبح هارون قلقاً جداً من وجود الإمام (عليه السلام) فذيوع فضله بين الملأ وانتشار اسمه وحديث الناس عن محنته واضطهاده، كل ذلك أقلق مضجعه وأربك فكره، فأوعز إلى كبار رجال دولته باغتياله لكنهم لم يجيبوه على ذلك، لما رأوا للإمام (عليه السلام) من كرامة وتقى وانقطاع إلى عبادة الله عزّ وجلّ، فخافوا من غضب الله ورسوله عليهم وزوال نعمتهم إن تعرضوا له بمكروه.
استمر هارون في التفتيش عن مثل هؤلاء الأوغاد الذين يبيعون آخرتهم بدنياهم فلم يجد سوى السندي بن شاهك(1) الأثيم اللعين الذي لا يرجو لله وقارا، ولا يؤمن بالآخرة، فنقله إلى سجنه، وأمره بالتضييق عليه. فاستجاب الأثيم لذلك، حيث عامل الإمام بكل قسوة، والإمام صابر محتسب، قد كظم غيظه، وأوكل أمره إلى الله. إنها المحنة الكبرى قد مُنيَ بها الإمام (عليه السلام) حينما نقل إلى سجن السندي بن شاهك، الذي بالغ في أذاه والتضييق عليه، والتنكيل به في مأكله ومشربه وتكبيله بالقيود، كل ذلك ليرضي هارون ويتقرب منه من أجل دنياه. وسوف نعرض لهذا الدور الرهيب، آخر أدوار حياة الإمام الكاظم المظلوم، ونذكر بعض شؤونه الأخرى كأوقافه ووصاياه وغيرها من الأمور.
مكان السجن
سجن (عليه السلام) في السجن المعروف بدار المسيّب الواقع قرب باب الكوفة(2) وفيه كانت وفاته (عليه السلام)(3).
التضييق على الإمام (عليه السلام)
أمر هارون الطاغية جلاده السندي الباغي أن يضيّق على الإمام، وإن يقيّده بثلاثين رطلاً من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء. وامتثل السندي لأوامر معلمه، فعمل على التضييق على الإمام، ووكل على مراقبته مولاه بشاراً، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغيّر حاله، وتاب إلى طريق الحق، لما رآه من كرامات الإمام (عليه السلام) ومعاجزه، وقام ببعض الخدمات له(4).
لم يرع السندي حرمة الإمام (عليه السلام) وتعرض لإساءته، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجي قال:
اجتمعت مع ابن السكّيت(5) في مسجد يقع بالقرب من دار السندي، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية، وكان في الجامع رجل لا نعرفه فالتفت إلينا قائلاً: (يا هؤلاء، أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم).
وأخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة، ثم قال:
ـ ليس بينكم، وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار إلى جدار السندي.
ـ لعلك تعني هذا المحبوس؟
ـ نعم. يقول أبو الأزهر فعرفنا الرجل من الشيعة، وإنه يذهب إلى الإمامة فقلنا له: قد سترنا عليك، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه فانبرى الرجل لنا وقال: (والله لا يفعلون ذلك أبداً، والله ما قلت لكم إلا بأمره، وإنه ليرانا ويسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان).
يقول أبو الأزهر: وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره، فعلمنا أنه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فبادرنا قائلاً: أنا ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي، وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعة من شرطته فقال للإمام بغير حياء ولا خجل: (يا ويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والأغلال فلو كنت هربت كان أحب إليّ من وقوفك ههنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة؟).
فقال له الإمام (عليه السلام) والتأثر باد عليه:
(كيف أهرب، وكرامتي ـ أي نيلي الشهادة ـ على أيديكم).
ثم أخذ بيد الإمام (عليه السلام) وأودعه السجن.
هكذا كانت حالة الإمام (عليه السلام) يساء إليه ويضيّق عليه وهو صابر محتسب قد كظم غيظه، وبث همومه وأشجانه إلى الله تعالى.
تفرّغ الإمام (عليه السلام) للعبادة من جديد
اعتاد الإمام (عليه السلام) على عذاب السجون من قبل الحكام الظالمين الطغاة، فأقبل على العبادة، يصوم في النهار، ويقوم في الليل، ويقضي أكثر أوقاته بالسجود والعبادة، لا يفتر لسانه عن ذكر الله. حتى أن أخت السندي لما رأت إقبال الإمام (عليه السلام) على الطاعة الخالصة والعبادة المستمرة أثر ذلك في نفسها، وأصبحت من الصالحات، وعند ذلك دبّت الرأفة في قلبها وأخذت تعطف على الإمام (عليه السلام) وتقوم بخدمته دون علم أخيها وكانت إذا نظرت إليه أرسلت الدموع مدراراً من عينيها وتقول: (خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل)(6).
اتصال العلماء بالإمام (عليه السلام)
الإمام الكاظم (عليه السلام) ذلك الينبوع الغزير والمنهل الذي لا ينضب ماؤه كان مقصد العلماء والرواة والمحدثين، اتصلوا به من طريق خفي فنهلوا من نمير علومه، من هؤلاء نذكر موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنه كان معلماً لولده، وقد ألف المروزي كتاباً ممّا سمعه من الإمام (عليه السلام). واتصل به هند بن الحجاج وغيره من قادة الفكر الإسلامي، كما دخل عليه من غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن(7) وقد أراد اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء إلى الإمام (عليه السلام) أحد الموظفين في السجن فقال له:
إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف، فإن كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غداً، فقال (عليه السلام):
ليس لي حاجة انصرف. فلما انصرف، التفت (عليه السلام) إلى أبي يوسف وصاحبيه فقال لهما:
(إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غداً إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة) فأمسكا عن سؤاله، وقاما، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه:
أردنا أن نسأله عن الفرض، والسنة، فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب!!
والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ما ذا يكون من أمره؟ وأرسلا في الوقت شخصاً فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد على من الدار، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفى، فقام مبادراً وأخبرهما بالأمر، متعجباً من علم الإمام (عليه السلام). وقد روى هذه القصة العديد من رواة الأثر(8) وإن دلّت هذه الرواية على شيء فإنها تدل على علم الإمام بالمغيبات، وانكشاف الحجاب له، وهذا ما تعتقده الشيعة في الإمام فهو يرى بعين الله تعالى.
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أخبروا بالملاحم والأمور الغيبية التي تحققت كلها، فهم بلا ريب ولا شك ورثة علم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قد ألهمهم عزّ وجلّ جميع أنواع العلوم، وأطلعهم على خفايا الأمور.
إرسال الفتاوى إلى الإمام (عليه السلام)
كانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً إلى الإمام (عليه السلام) حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل والفتاوى فيجيبهم (عليه السلام) عنها، وممن جاءه علي بن سويد، اتصل بالإمام (عليه السلام) وسلّم إليه الكتب والفتاوى، فأجابه (عليه السلام) عنها.
تعيين وكلاء الإمام (عليه السلام)
عيّن الإمام (عليه السلام) جماعة من طلابه وأصحابه الذين يثق بهم وجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلامية، ثم أومأ لشيعته بالرجوع إليهم لأخذ الأحكام الدينية منهم، كما أذن لهم في أخذ الحقوق الشرعية، لصرفها في مواضعها الشرعية على الفقراء والبائسين من الشيعة وإنفاقها في وجه البرّ والخير.
فقد نصب المفضل بن عمر(9) وكيلاً له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقيها.
تعيين ولي عهده
نصب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من بعده ولده الإمام الرضا (عليه السلام) فجعله علماً لشيعته، مرجعاً لأمة جده (صلّى الله عليه وآله)، فقد حدّث الحسين بن المختار قال: لما كان الإمام الكاظم (عليه السلام) في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها (عهدي إلى أكبر ولدي)(10).
علماً أنه عيّن ولده الرضا (عليه السلام) من بعده وذلك قبل أن يعتقله الطاغية هارون، وقلّده منصب الإمامة، ودلّ عليه الخواص من شيعته، فقد روى محمد بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: دعانا أبو إبراهيم ونحن سبعة عشر من ولد علي وفاطمة، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته.
لقد بيّن (عليه السلام) الحجة من بعده، ولم يهمل أمر الإمامة لأن هذا واجب شرعي لكل إمام، ولا يجوز أن تترك الأمة بدون إمام. وبذلك يكون قد هدى شيعته إلى طريق الحق والصواب. وقد جاء في حديث معروف عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بما معناه: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات موتة جاهلية).
1- هو مولى المنصور الدوانيقي ولي دمشق من قبل موسى بن عيسى في خلافة هارون الرشيد، ذكر ذلك الصفدي في كتابه: (أمراء دمشق ص39)، ونظمه في أرجوزته التي ذكر فيها أمراء دمشق بقوله:
وكـــــان قـــــد ولـــــي بـها بن شاهك خــــــــلافــــــة ولــــــم يـــــكن بـمالك
وذكر الجاحظ حديثاً عنه في (حياة الحيوان حينما ولي الشام يتعلق في تسويته بين القحطانية والعدنانية، وذكر الجهشياري في: (الوزراء والكتاب ص188)، أن السندي في أيام هارون كان يلي الجسرين في بغداد، وقد وكل بحراسة دور البرامكة لما أراد هارون النكبة بهم وجاء في (المصايد والمطارد ص7)، كان له ولدان: الحسين وإبراهيم. وله حفيد الشاعر المعروف والكاتب المشهور كشاجم كان من ألمع شخصيات عصره في أدبه وعلمه ومن المتفانين في حب آل محمد (عليهم السلام)، وجاء في (الكنى والألقاب ج3، ص93)، أن كشاجم كان من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) المجاهدين وله في مدح آل محمد قصائد مشهورة. وذكر ابن شهر اشوب في (المناقب) أن الله سبحانه وتعالى انتقم من السندي في اليوم الذي توفي فيه الإمام (عليه السلام) فقد نفر فرسه به وألقاه في نهر دجلة فمات فيه.
2- باب الكوفة: هو أحد الأبواب الأربعة الرئيسية لمدينة بغداد حينما بناه المنصور، وقد بنى على كل باب قبة مذهبة، وحولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها فيشرف على كل ما يعمل به، وباب الكوفة هو الطريق الذي يسلك فيه إلى الحج، وكان باباً عظيماً لا يغلقه إلا جماعة من الناس، ولما غرقت بغداد في فيضان 330هـ هدمت طاقات باب الكوفة، وجاء ذلك في خارطة بغداد أن باب الكوفة تقع في قرية الوشاش الحديثة في محلة الكرخ. وقال بعض العراقيين أن المحل الذي سجن فيه الإمام معروف عند بعض الأوساط وهو أحد قصور آل الباججي.
3- البحار، ج11، ص300.
4- نفسه، ج11، ص305.
5- هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الإمامي النحوي اللغوي، كان ثقة جليلاً من عظماء الشيعة، ويعد من خواص الإماميين التقيين وكان حامل لواء علم العربية، والأدب، والشعر، له تصانيف كثيرة منها: تهذيب الألفاظ، إصلاح المنطق، قال ابن خلكان: قال بعض العلماء ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل (إصلاح المنطق) ولا شك إنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد عني به جماعة، واختصره الوزير المغربي، وهذبه الخطيب التبريزي، وقال ثعلب: أجمع أصحابنا أنه لم يكن يعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكّيت، قتله المتوكل في 5 رجب سنة 244هـ. وسبب قتله أنه قال له يوماً: أيهما أحب إليك ابناي هذان، أي المعتز والمؤيد، أم الحسن والحسين، فقال ابن السكّيت: والله أن قنبر خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكل للأتراك: سلّوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك فمات، ومن الغريب أنه قبل قتله بقليل قال:
يــــــصاب الـــــفتى مـــن عثرة بلسانه وليس يـــصاب مـــن عـــــثرة الـرجل
فعـــــثرته فــــــي الـــقول تذهب رأسه وعـــــثرته فـــي الرجل تبرأ عن مهل
جاء ذلك في الكنى والألقاب: ج1، ص303-304.
6- النجاشي، ص319.
7- محمد بن الحسن الشيباني، مولاهم الكوفي الفقيه، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، أخذ الفقه من أبي يوسف ثم من أبي حنيفة، وسمع مالك بن أنس، وأخذ عنه الشافعي وأبو عبيد وكان فقيهاً. النجوم الزاهرة، ج2، ص130، وأنباه الرواة، ج2، ص268، توفي سنة 183هـ هو والكسائي في يوم واحد، دفنهما هارون. رثاهما اليزيدي:
سيـــــفنيك ما أفنى القرون التي مضت فـكن مـــــــستعداً فـــــالفناء عــتيد
أصبـــت علــــــى قاضي القضاة محمــد فـــاذريت دمــــــعي والــــفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخـــــطب أشكـــل من لنـــا بـــإيضـــــاحه يـــــوماً وأنــــــت فقيد
وأوجعـــــني مــوت الكـــــسائي بــــعده وكــــادت بــــــي أرض الفــــضاء تميد
8- نور الأبصار، ص126-127، الاتحاف بحب الأشراف، ص57-58، البحار، ج11، ص251، وجاء فيه زيادة على ذلك أنهما رجعا إلى الإمام (عليه السلام) فقالا له: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أن يموت في هذه الليلة؟ فقال (عليه السلام): من الباب الذي علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما ردّ عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب، وكذلك ذكره الأربلي في كشف الغمة، ص253.
9- الجعفي الكوفي، من كبار العلماء، ومن عيون المتقين الصالحين، ومن أفذاذ عصره، له المنزلة المرموقة والمكانة العليا عند أهل البيت (عليهم السلام) اقتبس العلوم من الإمام الصادق (عليه السلام) وكان من عيون أصحابه الذين اخذوا العلم عنه ويكفي على غزارة علمه كتابه القيّم المسمّى (توحيد المفضّل) الذي أملاه عليه الإمام الصادق (عليه السلام). يعد الكتاب من مفاخر التراث الإسلامي الذي يعتز به. شرح توحيد المفضل، ص17.
10- البحار، وأصول الكافي، عيون الأخبار.