حقيقة العبودية:
وهو أهم سؤال لـ (عنوان) بعد الحديث عن حقيقة العلم وروافده.. فيسأل (عنوان) الإمام عن حقيقة العبودية، قلت يا أبا عبدالله: ما حقيقة العبودية؟ والعلاقة بين السؤال عن (حقيقة العبودية) و(العلم) لأن العبودية من روافد العلم، كما شرحنا ذلك في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) لعنوان، فلابد أن يستتبع ذلك الحديث السؤال عن حقيقة العبودية. فلنتأمل في جواب الإمام الصادق(عليه السلام) لعنوان عن حقيقة العبودية.
قال: ثلاثة أشياء:
1 ـ أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به.
2 ـ ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً.
3 ـ وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه.
وها نحن نتحدث عن الآثار الثلاثة للعبودية الواردة في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) واحداً بعد آخر.
الأثر الأوّل: أن لا يرى العبد لنفسه ملكاً:
(أن لا يرى العبد لنفسه ملكاً فيما خوّله الله)
من بصائر القرآن أن الملك لله تعالى وحده في السماوات والأرض، يقول تعالى:
(ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض)(28).
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء)(29).
(ولله ملك السموات والأرض، والله على كل شيء قدير)(30).
(ولله ملك السموات والأرض وما بينهما واليه المصير)(31).
وآيات القرآن بهذه المعنى كثيرة.
ولهذه البصيرة القرآنية تأثير مباشر على سلوك الإنسان، فأنّ الإنسان إذا وعى أنّ الملك لله في السموات والأرض وليس لغير الله ملك، وليس له فيما خوله الله ملكاً. وانّما هو خليفة الله على ما خوّله تعالى من ملك خفّ تعلّقه بالدنيا، و هان عليه أمر هذه الدنيا، ولم يعد يتكالب على حطامها، كما يتكالب عليه المغرورون بها.
ان لوعي هذه البصيرة القرآنية تأثير مباشر في تعديل علاقة الإنسان بالدنيا، وبالتالي على سلوك الإنسان، فيخفّ تعلقه بالدنيا، وهذا هو المعنى الذي يصفه علماء الأخلاق بـ (الزهد) .
وفي مقابل (الزهد) التعلق بالدنيا.
وكل منهما سلوك نفسي، داخلي، يؤدي أحدهما الى سقوط الإنسان، والآخر (الزهد) الى عروج الإنسان.
ومن عجب أن يكون التعلق بالدنيا رأس كل خطيئة، وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، كان الزهد رأس كل فضيلة وقيمة في حياة الإنسان.
وقد اختصر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) الزهد في كلمة موجزة لا نعرف كلمة اجمل ولا أبلغ منها في التعريف بالزهد.
قال(عليه السلام): الزهد بين كلمتين في القرآن: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(32).
والأسى (الأسف) والفرح على ما يذهب، وبما يأتي حالة طبيعية في الانسان، لا ينهى عنها القرآن، إلاّ أنهما يتبعان قهراً حالة الزهد عن الدنيا والتعلق بالدنيا. فمن زهد عن الدنيا لا يأس على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه الله من الدنيا، ومن تعلق قلبه بالدنيا أسف على ما فاته منها وفرح بما اُوتي منها.
وهذه الحالة هي التي يصحّحها الإسلام في نفس الإنسان. وليس الأسى والفرح. فانّ الأسى والفرح حالتان طبيعيتان في النفس لا يردع عنهما الدين.
والتعلق بالدنيا يثقل الإنسان، ويسلب صاحبه الخفّة التي يتطلبه العروج والصعود الى الله، ويعطي الإنسان حالة الترهّل، وهي حالة مقيتة تمنع الإنسان من الحركة والعروج.
والآية الكريمة (38) من سورة التوبة دقيقة في وصف هذه الحالة: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثّاقلتم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل)(33).
فلا يمنع الإنسان من النفير في سبيل الله، إلاّ هذا التثاقل والترهل (إثّاقلتم) وهي حالة مذمومة في النفس، تصدّ عن الإنسان عن الحركة، والكلمة توحي بالترهل، حتى من حيث جَرَس الكلمة (: إثّاقلتم). ومبعث هذا التثاقل في نفس الإنسان، أن يرضى الإنسان بالدنيا من الآخرة، ويتعلق بالدنيا على حساب الآخرة.. وما متاع الدنيا الى جانب الآخرة إلاّ قليل.
وكيف لا يرى الإنسان لنفسه ملكاً فيما خوّله الله؟
إذا كان الإنسان يرى نفسه عبداً لله تعالى وهذه سلسلة مترابطة، متماسكة، من المعادلات، يذكرها الإمام(عليه السلام) لعنوان، في هذا الحديث.
والحلقة الاُولى في هذه السلسلة أن يرى الإنسان نفسه عبداً لله، وأن يعي معنى العبودية، وهي قوله تعالى: (عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء)، وهو تعبير دقيق عن العبودية لا يملك ولا يقدر.
لا يملك إلاّ بتمليك وتخويل من الله، ولا يقدر إلاّ بتمكين واذن من الله.
فإذا كان الإنسان كذلك، فلا يرى لنفسه ملكاً فيما خوّله الله، وهذه هي الحلقة الثانية في هذا المسلسل وهو نتيجة طبيعية للحلقة الاُولى، فليس للعبد أن يملك، وإذا كان الإنسان يرى عبداً لله تعالى فهو لا يرى لنفسه ملكاً فيما خوله الله تعالى لا محالة.. يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في توجيه وتفسير هذه المعادلة لعنوان: «لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمر الله».
والحلقة الثالثة من هذا المسلسل هو الزهد في الدنيا، فانّ الإيمان بانّ المال مال الله، وليس للعبد فيما خوّله الله ملكاً يؤدّى، كما ذكرنا، الى تعديل في علاقة الإنسان بالدنيا، وهو(الزهد).
والحلقة الرابعة في هذا المسلسل، كما ورد في حديث الإمام الصادق(عليه السلام) لعنوان: «فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق منه».
لأن المانع النفسي من الإنفاق هو التعلّق بالدنيا، وهو سبب كل شح وبخل في النفس، فإذا زال التعلق من نفس الناس هان عليه الانفاق.
الأثر الثاني (ولا يرى لنفسه تدبيراً)
لو أن الله تعالى أوكل أمر الناس اليهم لسقط الإنسان وسقطت حضاراته منذ أمد طويل، ووصل الإنسان الى طريق مسدود، ولكن الله تعالى يتولى أمر تدبير الإنسان في كل صغيرة وكبيرة. ومن أنعم الله عليه بالبصيرة يرى يد الله تعالى في تدبير حياته في كل منعطف من منعطفات الحياة وفي كل سرّاء وضراء، والناس في ذلك سواء برّهم وفاجرهم، فلا يمكن أن يعيش الانسان، ولا يمكن أن يستقيم أمر هذا الكون من دون تدبير الله تعالى.
والإنسان يحتاج الى الله تعالى في الخلق والتدبير، وليس في الخلق فقط، كما أن الكون كلّه بحاجة الى الله في الخلق والتدبير، ولا يستغني بالخلق عن تدبير الله.
ولكن ليس الناس سواء في وعي هذه الحقيقة، وقليل من الناس من يعي ويعرف ويرى يد الله في حياته، وتتجلّى له رحمة الله وحكمته تعالى في تدبير أمر نفسه.
فالنصر من الله: (وما النصر إلاّ من عند الله)(34).
والخذلان من الله: (وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم)(35).
والرزق من الله: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها)(36).
والله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)(37). (انّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)(38).
ويعزّ الله من يشاء: (من كان يريد العزّة فلله العزّة جميعاً)(39).
ويذل الله من يشاء: (وتذل من تشاء)(40).
ويملّك من يشاء، وينزع الملك ممّن يشاء: (قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء)(41).
ويجعل النور في قلب من يشاء، ويحجب الله النور عن قلب من يشاء: (يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به)(42) (ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور)(43).
ولكن كل ذلك بسبب، فإذا نصر الله قوماً كان هذا النصر بسبب في سلوكهم وحياتهم، وإذا خذل الله تعالى قوماً، كان ذلك بسبب من سلوكهم وأفعالهم، وإذا بسط الله الرزق لقوم كان ذلك بسبب، وإذا قدّر الله على قومهم رزقهم كان ذلك بسبب، وإذا جعل الله النور في قلب عبد من عباده، كان ذلك بسبب من سلوكه وعمله، وإذا سلب الله تعالى النور من قلب عبد من عباده كان ذلك بسبب من سلوكه وعمله، وليس عفواً، واعتباطاً، وسبحانه عن ذلك.
(انّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(44).
(ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(45).
لو أن الإنسان وعى هذه الحقيقة، وعرف يد الله تعالى في حياته في السراء والضراء، وفي الشدّة والرخاء، وعرف أن لا غنى له عن تدبير الله أوكل أمر نفسه الى الله تعالى في كل حال.
وفي حياة الإنسان ما لا يحصى من الأدلّة على أن الإنسان لا يستغني عن تدبير الله، ويعجز من أن يدبر أمر نفسه ساعة واحدة، ولو أن الله تعالى أوكل أمر الإنسان الى نفسه لهلك وسقط منذ حين.
وشتان بين ما يطلبه الإنسان لنفسه وبين ما يريده الله تعالى. ولو عرف الإنسان هذه الحقيقة، ووعاها أوكل أمره كلّه الى الله، وفوّض اليه تعالى كل أمره، عن الإمام الصادق(عليه السلام): «سلوا الله التوفيق، فانّ موسى(عليه السلام) خرج يطلب قبساً من النار، فآتاه الله النبوة»(46) وشتّان بين ما كان يطلبه موسى(عليه السلام) لأهله في تلك الليلة المظلمة وبين ما كان يريده الله تعالى له.
وقد خرج المسلمون الى بدر، وقد وعدهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بأحد الأمرين: إما الغنيمة الباردة لعير قريش أو النصر في مقابله ذات شوكة على قريش، وكان المسلمون يؤثرون الأول على الثاني، غير أن الله تعالى كان يريد لهم ذات الشوكة، ليكونوا سادة وائمة على وجه الأرض: (وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)(47).
___________________________________________
28- البقرة: 107.
29- آل عمران: 26.
30- آل عمران: 189.
31- المائدة: 18.
32- الحديد: 3.
33- التوبة: 38 .
34- آل عمران: 126.
35- آل عمران: 160.
36- هود: 6 .
37- الرعد: 28.
38- الإسراء: 30.
39- فاطر: 10.
40- آل عمران: 26.
41- آل عمران: 26.
42- الحديد: 28.
43- النور: 40.
44- الرعد: 11 .
45- الأعراف: 96.
46- نقلنا الرواية بالمضمون.
47- الأنفال: 7 .