السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله وبركاته..
أهلاً بكم في أولى حلقات هذا البرنامج الذي نسعى فيه لإستجلاء القيم الإلهية التي حفظها القيام الحسيني المقدس.
وسيدة هذه القيم – أيها الأكارم – إحياء نهج التوحيد الخالص وحفظ الإسلام المحمدي النقي، وهو مما جلاه هذا القيام التضحوي القدسي.
أيها الإخوة والأخوات، كانت لنا في الحلقة الأولى من هذا البرنامج وقفة قصيرة عند موقف السبايا من آل الحسين صلوات الله عليه عند عودتهم الى المدينة بعد وقائع عاشوراء ومسيرة السبي المفجعة.
فقرأنا لكم أبياتاً مفجعة أنشأتها في رثاء أبيها الحسين السيدة المتألهة سكينة وهي عروس القاسم الشهيد يوم عاشوراء..
والأبيات من بواكير ما قيل في حفظ يوم الحسين، لنا عندها في هذا اللقاء وقفة تتقدمها إشارة الى أجوائها، حيث كتب أستاذنا الأديب الحاج إبراهيم رفاعة عنها يقول:
خمس سنين بعد مقتل الشهيد الأبي المظلوم: ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت، ولا رئي دخان في بيت هاشمي.. حتى قتل عبيدالله بن زياد والي يزيد في الكوفة، الذي جيّش جيش قتل الحسين.
إن سيد الأسرة أباعبدالله الحسين هو في حياتهم كل شيء، لأن كمال توحيد الله في جماله وجلاله هو في حياتهم كل شيء.
وسكينة – منذ اللحظة الرهيبة المرنحة الى آخر حياتها النورانية الشريفة المنزهة في سنة ۱۱۷ الهجرية – ما نسيت لحظة أباها الشهيد.
تقيم مجالس للنساء مجلساً بعد مجلس.. نعياً وبكاءً وتذكيراً بمن ذكره من ذكر الله، ونسيانه من الغفلة عن الله.
هذه المجالس الناعية التي تستبطن غضياً مقدساً.. يعرف بنو أمية أنها سكاكين تطعن خواصرهم، وتفضح من قبائحهم وسرائرهم ما طالما تستروا عليه.
وظفوا أجهزة الإعلام التزويري الحاضرة أبداً، فأشاعوا أن مجالس بنت الحسين إنما هي مجالس شعر ولهو وطرب وغناء! وتولى كبر هذا التزوير الآثم بعض آل الزبير الذي تفننوا في الكذب والإفتراء.. حتى صدق ذلك من صدق، وسود به صفحات بعض كتب التاريخ.
لم يحفظ التاريخ – في أجواء الإرهاب الفكري والسياسي لبني أمية – تفاصيل عن مجالس إبنة شهيد الله المظلوم، وما تسرب من بين قبضة الإرهاب إلا نزر يسير، منه أبيات لسكينة تنعى فيها أباها الحسين.
أبيات السيدة المتألهة سكينة بنت الشهيد الحسين رواها العالم اللغوي الأديب ابن دريد، عن أستاذة أبي حاتم السجستاني المتوفى سنة ۲٥۰ الهجرية.
ومنذ مطلع الأبيات نرى المضايقة المتعمدة لآل محمد في المدينة على إقامة مجالس المناحة والرثاء، أول كلمة افتتحت بها هذه الأبيات تصور عذل العاذلين ولوم اللائمين لها على البكاء وذرف الدموع:
لا تعذليه، فهم قاطع طرقه
فعينه بدموع ذرف غدقه
ومن البداية ترفض إبنة الشهيد المظلوم هذا العذل الجهول، فالمصاب أعظم من أن يكون فيه موضع للوم أو عتاب، إنه يبتلع بفداحة رزئه كل تردد أو عذل أو سكوت.
إن الهم الجليل الثقيل الذي طرق القلب جاثماً عليه.. لا يقبل التفاوض على الرحيل!
لقد "قطع" على الباكي المتفجر بكاءً كل طريق متفجر البكاء.
وسواء أكانت هي سلام الله عليها المعذول المراد في البيت أم هو رجل من أهلها لا ينقطع عن البكاء مثل أخيها السجاد زين العابدين.. فإن عذل العذال لن يلقى آذاناً صاغية من لدن المتشبع استغراقاً مع الله:
لا تعذليه، فهم قاطع طرقه
فعينه بدموع ذرف غدقه
يكفي أن نقف قليلاً عند عجز هذا البيت ليتبين لنا هذا الدمع المتواصل المدرار، إن العين هنا تذرف دموعاً كثاراً لا دمعة واحدة، وهذه الدموع ليست "ذارفة" بل هي "ذرف" بصيغة المبالغة والتكثير، تعقبها صفة "الغدقة" للعين.. المعبرة – بصيغتها هذه – عن الإستمرار في سكبها الغزار من الدموع.
كل هذا البكاء كأنما هو "إذن دخول" الى ذكر عالم أبي عبدالله سيد الشهادة وإمام الشهداء:
إن الحسين غداة الطف يرشقه
ريب المنون فما إن يخطئ الحدقه
هذه هي فجيعة الفجائع ومناحة المناحات. جوهرة الله الخالصة المصفاة كانت الغرض المسترخص في يوم الطف.. يرشقونه باستخفاف دونما رادع من دين أو عقل أو وجدان، إن سواتر الحماية الإنسانية هذه معطلة لا تعمل في ميزان آل أبي سفيان، وبئس الميزان!
حبيب قلب النبي وفلذة فؤاده هو من ترشقه – متسارعة – سهام أوباش بني أمية من كل صوب، وهو المستوحد المستفرد الغريب المظلوم. وكان لهم من إصامة جوهرة الله ما يريدون.
لم يخطئوا "حدقة" عين التوحيد التي هي المركز له وقلب القلب فيه؛ أصابوها في الصميم وفارت – في الزمن الحالك المكفهر – دماء شهيد العشق الإلهي الحق.. لتعلو في سموات العالم شمساً ساطعة حمراء.
إنه لتأسف فوق تأسف أن يكون مصرع شهيد الله الأنور بأيدي من وصفتهم يتيمة الحسين سكينة ذات القلب الملوع المفجوع:
إن الحسين غداة الطف يرشقه
ريب المنون، فما إن يخطئ الحدقه
بكف شر عباد الله كلهم
نسل البغايا وجيش المرق الفسقه
وهذا الوصف شديد الإنطباق على قتلة أبي عبدالله الحسين، وهو الى التصوير الواقعي أقرب منه الى الشتم بما هم فيه ناقعون، إنه أشبه شيء بالتذكير، من لا يعرف أن عبيدالله بن زياد أمير الكوفة ليزيد الشقي هو ابن زياد بن سمية، المعروف بزياد ابن أبيه، لأنه مجهول الأب،وقد ادعى عدد من الرجال أن كلاً منهم هو أبوه، ثم استلحقه معاوية بن أبي سفيان سنة ٤٤ الهجرية – ولداً غير شرعي – بالسيء الصيت أبي سفيان، في سابقة بدعة نكراء لم تعرفها حيأة المسلمين، وأثبت تفاصيل خبرها عامة المسلمين.
يا لها – إذن – من أمة يسوسها أمثال هؤلاء المارقين من دين جد الحسين، ويقودون دفتها الى حيث تنتظرهم هاوية سحيقة، لن تستقر بهم إلا في الجحيم.
يا أمة السوء، هاتوا ما احتجاجكم
غداً، وجلكم بالسيف قد صفقه؟!
والصفق بالسيف – يا فداك روحي يا مولاي الحسين – ضرب يسمع له صوت! وهو مما رأته سكينة وسمعته يصنع بأبيها في مذبحة كربلاء:
الويل حل بكم، إلا بمن لحقه
صيرتموه لأرماح العدا درقه
ثلاثة من أسلحة الحرب الفتاكة هي ما أعملوه بحقد متأجج يوم عاشوراء: رشق السهام، وصفق السيوف، وطعن الرماح! بدا سيد شهداء الله في هذا الطعن كالترس الذي ما أكثر ما تشكه الرماح! لا محالة أن الويل والعذاب نصيب اولئك المسوخ البشرية الشائهة، أما من لحق بأبي عبدالله المظلوم لحوق موقف ونصرة فهو في أفق آخر كله تأله وتنور ونعيم، ويبدو في قول العقيلة سكينة "الويل حل بكم، إلا بمن لحقه" نوع من التحريض على رفض الواقع الجائر والإنضمام الى ركب أنصار الحسين والمطالبين بالثأر، كما فعل في ثورتهم بعد عاشوراء الرجال التوابون. إن الدمع والغضب في كربلاء طاقتان متلازمتان، ما أطهره من دمع.. وما أشرفه من غضب!
بدأت عزيزة الحسين – في مرثيتها أباها – بالبكاء وختمتها – بعد وصف للفاجعة – أيضاً بالبكاء:
يا عين، فاحتفلي طول الحياة دماً
لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقه
لكن على ابن رسول الله فانسكبي
قيحاً ودمعاً، وفي إثريهما العلقه
هو ذا بكاء آل محمد – صلوات الله عليهم – على الحسين، بكاؤهم استأثر به أبوعبدالله الحسين، دون أي موضوع آخر يستدر الدموع، وهو بكاء طويل يمتد ما امتد العمر.
والمزية الأخرى لبكاء آل محمد أنهم يبكون دموعاً ويبكون.. حتى تتقرح وتلتهب منهم الجفون، فيسيل منها الدم ممتزجاً بماء العيون، والعلقة: الدم المتجمد من أثر تقرح الجفون:
يا عين، فاحتفلي طول الحياة دماً
لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقه
لكن على ابن رسول الله فانسكب
قيحاً ودمعاً، وفي إثريهما العلقه
نشكركم إخوة الإيمان على طيب الإستماع لحلقة اليوم من برنامج يوم الحسين قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، شكراً لكم وفي أمان الله.