السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله وبركاته..
كانت لنا في اللقاء السابق من هذا البرنامج وقفة تأملية أولى مع أستاذنا الحاج إبراهيم رفاعة في قصيدة هو قلب زينب ومنها إنطلق حفظه الله للتعريف بخصائص يوم الحسين عليه السلام من خلال حوار في عالم الملكوت والمعنى بين البلاء الذي سجد لزينب وبين ربها الأعلى تبارك وتعالى..
وفي هذا اللقاء نتعرف الى الرؤية الحسينية الزينبية للبلاء من خلال تلكم القصيدة الغراء، التي تصور البلاء يجسد إستسلاماً لصبر الصديقة الحوراء وإقراراً بأنه عجز عن قهر هذا الصبر بل وعجز حتى عن إضعاف روح الشكر والحمد لله وهي الروح التي أفعمت الصبر الزينبي.
كتب الأستاذ إبراهيم رفاعة حفظه الله يقول:
البلاء الذي شهد لعز الهواشم وفخرالمحمديات بشموخ الصبر؛ هو نفسه كما يصور لنا الشاعر الذي ألهم قصيدة– هو قلب زينب –من وقف أمام ربه يعدد ألوان الرزايا والمصائب التي إحتضنتها بنت فاطمة وعلي، وعايشتها معايشة من صميم القلب.
طويلة هي قائمة رزايا إبنة علي، وجليلة أيضاً وباهضة تبهض حتى صلابة سلاسل الجبال. عاصرت رزايا جدها أنواعاً، أنكاها الأذى الذي كان يرشقه به القريبون منه بعدما أخرجهم من الظلمات الى شاطئ النور.
فتحت على خطب الني عيونها
ورأت تجرعه الأذى مستكتماً
ورأته يقتل بالسموم ثلاثة
غدر اليهود، ومنها حسد العمى
ورأت مصائب ابنته الأثيرة أمها فاطمة الفتية التي يملأ كل مكان تخطو فيه نور جلال رهيف، ما أقساها من فجائع أصيب بها قلب أمها الزهراء البتول:
ورأت مصائب أمها وهمومها
إذ تستغيث شكاية وتظلما
سمعت نحيب الأم في سحر الدجى
وقبيلة الإسلام طراً نوماً
ورأت ربيع شبابها كمداً ذوى
صارت خيالاً للجراح ململما
أما ما لقيه أبوها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب من مسلمي قريش وغير قريش.. فهو وحدة ملحمة قائمة بذاتها كلها ظلم وجور وعسف وخطوب، ظلوا يوقدون نارها طيلة التاريخ!
وكما كانت حاضرة في المآسي المتتابعة التي رموا بسهامها الغادرة أخاها الحسن السبط الشهيد.. حضرت أيضاً – في مدىً أوسع – كل فجائع أخيها أبي عبدالله الحسين خلاصة أهل الكساء:
ورأت مصائب كربلا.. واكربلا!
ما مثلها كتب القضاء وأبرما
إكتملت الدائرة الخماسية لعذابات محمد وآل محمد الخمسة الطيبين، دائرة تدور دوراناً لا أول له ولا آخر. وكان القلب الزيبني الكبير هو من تحمل كل هذه الرزايا التي لا تنتهي في العدد، ولا يطيق أدنى جراحاتها – في جليل معناها – أحد.
لقد نفد صبر البلاء.. وما نفد صبر زينب!
هو ذا البلاء يرجو ربه أن يقيله ويعفيه من ملازمة دار الصبر الزينبي الشامخ المنيع، فما للبلاء نفسه من طاقة للتحمل، إنه يدعو أن يأذن له ربه بالجلاء والرحيل:
قد عيل صبري من لزومي دارها
رباه، فاأذن بالجلاء ترحما!
هكذا – إذن – انتهى المطاف بالبلاء طالباً الإنسحاب من المشهد.. في مقابل جبل الصبر المدهش الذي ما تصدق منه حجر واحد، ولا فلت منه – على كثرتها وتنوعها – معاول المصائب والخطوب.
ترى.. بم يجيبه ربه عزوجل؟ أيحكي له عن معنى هذا الصبر العزيز، أم يحيله على أمته العليمة الحبيبة زينب بنت فاطمة، فتكون هي التي تحكي للبلاء عن جمال الصبر وعن عذوبة هذه النعمة الإلهية العظيمة؟
من يتصور أن موجات محن ورزايا تصطدم بصخرة راسخة، فترتد الرزايا والمحن منحسرة منكفئة في ذهول؟!
من سمع أن البلاء الإلهي – وهو مخلوق ذو حياة ووعي وتمييز – يذهل أمام صبر إمرأة قاست المحن ألواناً وكابدت الخطوب أصنافاً، فما وهنت لها عزيمة ولا وهى من صبرها شموخ، لن تكون هذه المرأة إلا واحدة لا ثانية لها في العالم، ولن يكون اسمها إلا الصديقة زينب بنت أميرالمؤمنين علي.
رجع البلاء الى ربه.. يسأله أن يعفيه من التوجه مرة أخرى الى شقيقة الحسين. لكأنها في تتابع البلايا على قلبها القدسي دوحة باسقة خضراء، لا يزيدها ماء سقياها إلا خضرة ونماء!
لقد ذاقت من البلاء ما يهد الجبال.. وهي ما تزال واقفة تقارع العواصف العاتية بمفردها، صلبة ثابتة بقلب كأنه مجبول من نوع صبرها الفريد!
إنها الجديرة بأن يكون شرابها صفو ماء السماء الطهور.. لا شراباً من موجات بحر الرزايا والمحن والخطوب!
هكذا رجع البلاء الى ربه يسأله ويتضرع إليه أن يقيله من هذه المهمة، داعياً أن يسمح له ربه بالمغادرة والجلاء:
هل مثلها رباه يسقى علقماً
وشرابها صفو الطهور من السما؟!
قد عيل صبري من لزومي دارها
رباه فاأذن بالجلاء تكرما
هذا مما نقرأه في هذه الميمية الزينبية المتحدرة من أفق علوي شفيف.. متحاضنة الأبيات، متواشجة المشاهد، بواحة بمعان قدسية خاصة لا يخطئها التذوق في جميع أبياتها التي زادت على المئتين.
القصيدة ضرب من الإلهام تنزل على قلب الشاعر ولاريب، يتفطن الى هذه الحقيقة من ينفتح قلبه على قراءتها مرة ومرات، إنها قصيدة جديدة في الصورة وفي المعنى وفي الترابط العضوي الذي يوحدها.. كأنك تتطلع – من خلالها – على مشهد عال من مشاهد الغيب.
إن على البلاء – في محضر الله تبارك وتعالى – أن يتعلم الصبر!
ما أجمل الصبر إن كان تحملاً بلا شكوى ولا تذمر ولا شعور بالحرج والضيق! جوهرة نقية هو إذن، أنفس من الماس، وأصفى من مترقرق الياقوت، إنه يشع حسناً وجمالاً يملأ قلب صاحبه ويملأ من حوله الحياة.
ما كان لهذا البلاء الذي حل في دار ابنة علي أن يعجل، وأن يجيء ربه طالباً عن دارها الإنصراف، عليه أن يتعلم ما لم يكن يعلم، وأن يفهم تماماً جلوة الدرس:
فأجابه الرب الجليل معاتباً:
صبراً جميلاً إن أردت تعلما
الصبر مني، يستنير بنوره
من رام هدياً والصراط الأقوما
الصبر الجميل هبة من الله للعبيد، الصبر منار يهدي الصابر ويوصله الى جادة الصراط المستقيم في الدنيا والصراط الأقوم المتجسد عنه في الآخرة وكلامها واحد.
وهكذا يتضح أيها الإخوة والأخوات أن الصديقة الحوراء زينب صلوات الله عليها قد عرفت العالمين في يوم الحسين حقيقة البلاء مثلما علمتهم عملياً معنى الصبر الجميل..
قالت عن وقائع يوم الحسين المفجعة: ما رأيت إلا جميلا وبذلك أثارت في قلوب المؤمنين دفائن الفطرة السليمة لإمتلاك العين التوحيدية التي يرون بها الجلال والجمال والحكمة والرحمة في كل ما قدره الله عزوجل لعباده وهو بهم أرحم الراحمين.
وبهذه الرؤية التوحيدية لجميل الصنع الرباني يصبح المؤمنين موحدين صادقين وبها يتحلون الصبر الجميل الذي تجلى بأسمى صوره في أخت الحسين الصديقة زينب الكبرى صلوات الله عليها.. ولهذا المجمل تفصيل يأتيكم في الحلقة المقبلة فيما كتبه أستاذنا الحاج إبراهيم رفاعة عن قصيدة هو قلب زينب.
نشكركم أيها الأطائب على طيب الإستماع لحلقة اليوم من برنامجكم يوم الحسين قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.. في أمان الله.