بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد حمد الشاكرين وصل وسلم على النبي الخاتم وآله الأطهرين.
إخوة الإيمان متابعي برنامج نهج الحياة أهلاً بكم في هذه الحلقة وتفسير آي أخر من سورة القصص المباركة وهذا أولاً تفسير الآية السادسة والسبعين:
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿٧٦﴾
سبق أن عرض بعض من آيات هذه السورة لقصة النبي موسى عليه السلام وفرعون، أما الآية هذه وما يليها، فإنها تشير لقصة قارون الذي يعلمنا القرآن أنه كان من قوم موسى فبغى عليهم.
عن هذه النسبة هناك عدة أقوال أشهرها أنه كان من بني إسرائيل ثم من سبط موسى وهو إبن خالته، ومعنى بغلا عليهم إسطال عليهم بكثرة وكنوزه وكان يدعى المنور لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فبغى على القوم.
وقيل كان عاملاً لفرعون على بني اسرائيل، فكان يبغي عليهم ويطالبهم لما كانوا بمصر، وقد أعطاه الله كما يقول سبحانه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي قوة.
فاغتر بهذه الثروة وتكبر وتجبر، فقال له اسرائيل "لا تفرح" يا قارون "إن الله لا يحب الفرحين" فلا تتكبر بما لك من الكنوز، إن الله لا يحب من كان بهذه الصفة، وهذا ما يدل على أن الفرح هنا يعني البطر الذي يلازم الفرح والسرور المفرط والإغترار بمتاع الدنيا، فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة ويورث البطر والأشر، لذا قال سبحانه "ولا تفرحوا بما آتاكم واله لا يحب كل مختال فخور".
ما استفدناه من الآية:
- لا بأس بالثراء إن كان ذلك لا يفضي بصاحبه الى البغي على الناس والتمرد على الله والرسول، فما أقبح ذلك.
- السكر ليس سبهه تعاطي الخمور أو الكحول فحسب، فقد يغر المال والثراء ضعاف النفوس حيناً ما ينسيهم الله وكل ما حولهم، فمثل هؤلاء الأشخاص يتطاولون بدافع هذا المال والثراء المفرط على حقوق الغير.
نستمع للآية السابعة والسبعين من السورة:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾
أشارت الآية السابقة الى أن بعضاً من أتباع النبي موسى عليه السلام وكانوا أناساً يتصفون بالفهم والعقل والدهاء والواقعية، فإنهم بدل أن يستصغروا أنفسهم ويستكبروا قارون ويعظموه، بادروا بكل شهامة الى نصحه علهم يردعونه عن البغي بالحسنى، ويثيرون فيه روح الخير والصلاح.. وذلك بقولهم ما مضمونه: ما لك يا قارون تكثر فرحاً بالمال وتغتر به وتتخذه وسيلة للبغي والعدوان، والترف والإسراف، وهؤلاء الألوف يموتون جوعاً؟ أتختال وتفاخر بقدرتك على المآثم والرذائل رغم أن الله لا يحب كل مختال فخور واتبع يا قارون فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة بأن تنفقها في سبيل الخير ووجوه الخير والبر "ولا تنس نصيبك من الدنيا" بأن تعمل في دنياك لآخرتك، أو لا تترك ما أنت في حاجة إليه لحياتك ومتعتك، فكل ما شئت من الطيبات والبس ما أردت من فاخر الثياب واسكن ما أحببت من الدور، ولكن على حساب جهدك وكدك، لا على حساب الآخرين، فإنك بهذا تجمع بين الحظين معاً، زاد الدنيا وزاد الآخرة "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي إتق فيما أنعم به عليك، واشكر على ذلك بالإحسان الى عباده وعياله، وتعاون معهم على ما فيه خيرك وخيرهم.
"ولا تبغ الفساد في الأرض" بالجور والخيانة، والتكبر والتجبر والعيش في الإسراف والبذخ، وهؤلاء الجياع والعراة... إن هذا هو الفساد بالذات "إن الله لا يحب المفسدين" وأعد لهم عذاباً أليماً.
أفادتنا الآية:
- يجب أن يكون ما يطمح إليه المرء في كل الأمور وما ينشده في صعد الحياة من إقتصادية واجتماعية وثقافية هو رضا الله يوم القيامة، طبعاً على أن لا ينسى نصيبه من الدنيا.
- على المرء أن يفكر بأمر آخرته مثلما يفكر بأمر دنياه، ويتأسى بهذا القول المأثور للإمام علي عليه السلام "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" أي خذ نصيبك من حاجاتك ومتطلباتك الطبيعية في الحياة الأولى ودع ما تبقى من ذلك للحياة الآخرة.
- لا بأس في المال والثراء، إذا كانا يفيدان الآخرة، ويسخران في الأمور الخيرية وصالح الأعمال والإحسان للآخرين، خاصة إذا كانا يوفران سعادة الإنسان وحسن العاقبة.
والآن نبقى مع الآية الثامنة والسبعين:
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78}
كان رد قارون على ناصحيه من مؤمني قومه بني اسرائيل الذين أفهموه إنما آتاه الله من مال وثراء تفضل منه، فعليه ابتغاء الدار الآخرة والإحسان بما أنعم الله الى الناس، وعدم الإفساد في الأرض إستعلاءً واستكباراً وبطراً، أن "قال إنما أوتيته على علم عندي" أي من علمه وموهبته ومهارته، فهو منه لا من فضل الله، فكان رد العقلاء عليه هو:
"أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون" الكافرة بنعمته؟ وكيف يعلم قارون وقد أطغاه المال والجاه، وأعماه عن عاقبة الظلم والبغي، وأنساه ما سمع عن القرون الأولى رغم أن فيهم من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، فإنها كانت أكثر منه مالاً وأعز نفراً كقوم عاج وثمود وقوم لوط وغيرهم، ثم بيّن سبحانه أن اعتزاز قارون بماله وعدده من الخطأ العظيم لأنه لا ينتفع بذلك عند نزول العذاب به كما أن من كانوا أقوى وأغنى منه تغن أموالهم وجموعهم عنهم شيئاً، عند ذاك "ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" لأنهم يدخلون النار بغير حساب.
نبهتنا الآية الى:
- إن المال، وإن كان من الرزق الحلال وكد اليمين وعرق الجبين، أو البحوث والدراسات العلمية، يجب أن لا يكون ما يدعو الى الغفلة والبغي والغرور، فإنه فضل من الله وإحسان.
- الإغترار بالعلم والقوة والثراء، من عوامل هلاك الإنسان في الحياة الدنيا.
بنهاية هذه الحلقة من البرنامج، نشكر لكم مستمعينا الكرام حسن المتابعة، موعدنا القادم في حلقة جديدة إن شاء الله حتى ذلك الموعد نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله.