ولد ابو نصر حوالي سنة ۲٦۰ للهجرة في مدينة فارياب التي كانت جزءاً من خراسان الكبرى. كان والده من قادة حرس الحدود. توجه في ايام شبابه الى بغداد وذلك في رحلة طويلة عانى منها كثيراً. وبعد استقراره في هذه المدينة، تتلمذ على يد كبار الفلاسفة في ذلك العصر وتعلم منهم المنطق والفلسفة. كان الفارابي يجيد اللغات الفارسية والتركية والعربية والسريانية واليونانية. ولم يلبث أن وصل في دراساته للفلسفة اليونانية الى درجة أسموه «المعلم الثاني». وكان أرسطوطليس يسمّى«المعلم الاول» من اليونانيين.
تحمل الفيلسوف الفارابي معاناة كثيرة في طريق العلم والمعرفة، هذا وكان ابو نصر يسهر الليالي للمطالعة والقراءة ويتضيّء بمصابيح حراس المدينة. كانت حياته الشخصية البسيطة تقتصر على النوم وأخذ الراحة عند ضفاف الانهار وفي البساتين والحدائق، وهو يعكف على القراءة والكتابة ويقضي ايامه على هذا المنوال، بيد أن كثيراً من طلابه أخذوا العلم والمعرفة على يده في مدينة بغداد. وبما أن الفارابي عانى صعوبات ومشاكل مادية عدة في ايام شبابه الا انه وبالرغم من سعة علمه وثقافته الثرية وشهرته الواسعة كان يعيش حياة بسيطة.
وجاء في التاريخ أن سيف الدولة الحمداني فاتح مدينة دمشق كان يحتفي بالفيلسوف الكبير الفارابي كثيراً ومع ذلك كله، لا يأخذ ابونصر منه إلا اربعة دراهم يومياً وكانت مبلغاً مالياً زهيداً.
تزامنت فترة حياة الفارابي مع اضمحلال ونهاية الحكم العباسي وسقوطه. ولم يكن للأسر المثقفة الكبيرة كالبرامكة الذين كانوا يدعمون العلم والثقافة ويحثون على انتشاره، لم يكن لهم أي أثر ووجود، إذ شملتهم آلة النكبة والقتل، اضافة الى ذلك ان أسراً علمية مشوقة للعلم والفن والثقافة في خراسان كالسلالة الساسانية والبويهيين لم تبرز بعد قوتهم ومكانتهم العلمية. وفي مثل هذه الظروف، كان علماء كبارٌ امثال أبي نصر الفارابي يرون أن عليهم أن يشدوا الرحال الى أمصار وبلاد نائية بحثاً عن مشوق وحام للعلم والمعرفة، كما نراهم أحياناً كانوا يتهربون من بلدان ومناطق يلقون فيها الأذى والتهديد والإساءة.
ولما وجهت الى أبي نصر الفارابي تهمة الزندقة والإلحاد وهو كان يعيش في بغداد عاصمة خلافة العباسيين، تهرب من هذه المدينة متوجهاً الى دمشق، حيث احتفى به سيف الدولة الحمداني في بلاطه والذي جمع حوله عدداً من كبار العلماء وفحول الشعراء كالفارابي وأبي الطيب المتنبي. ومن هنا عظم شأن الشاعر المتنبي وارتقى فيما بعد الى مكانة مرموقة في بلاط عضد الدولة الديلمي؛ غير ان حياة الفيلسوف الفارابي كانت بسيطة متواضعة وذلك لأن السلاطين والأمراء والحكام في تلك الحقبة الزمنية لم يكونوا يعيرون اهتماماً بعلوم كالفلسفة والمنطق، وكان الملوك والحكام يتظاهرون بشدة في ذلك العصر بالتزامهم بالدين والتعصب في العقيدة؛ ما جعل علماء وفلاسفة كالفارابي والذين كانوا يبحثون عن الحقيقة والمعرفة يعانون من ضيق ومشاكل جمة في حياتهم المعيشية.
ورغم ان ابا نصر الفارابي كان فيلسوفاً بيد انه ومن أجل المعيشة اضطرّ للتوجّه الى الطب وعلاج المرضى. وهذه الطريقة كان يلجأ اليها معظم الفلاسفة المسلمين آنذاك.
ان الكتب الفلسفية التي كانت قد ترجمت حتى عصر الفارابي، تضم غالباً أخطاءً عدة وغير مفهومه، وكان الفارابي أول من أقدم على دراسة وفهم الكتب والآراء الفلسفية لكل من أرسطوطاليس وافلاطون بشكل كامل وبذل قصارى جهده في هذا الشأن، ومن ثم تطرق الى شرح هذه الآراء ونقدها والتعليق عليها فيما أصدره من المؤلفات والرسالات الفلسفية. وفي الحقيقة لابد من القول هنا إن معرفة العالم من جديد على آراء ومصنفات هذين الفيلسوفين ما هي إلا حصيلة علم وثقافة الاستاذ والفيلسوف الكبير الفارابي وما بذله من جهود مضنية في هذا الطريق.
وكان ابونصر الفارابي وفضلاً عن تبحره في علمي المنطق والفلسفة اللذين كانا محور معظم أعماله ونتاجاته العلمية، كان في طليعة باقي العلماء والفلاسفة في كثير من العلوم والمعارف في عصره.
الى ذلك، كانت للفارابي معرفة في مجال الطب غير أنه لم يمتهنه إلا عند الضرورة المعيشية.
وفي علم النجوم، ترك الفارابي كتاباً يثبت فيه بالأدلة الدامغة أن تكهنات المنجمين لا أساس لها من الصحة ولا قيمة لها ايضاً. هذا وأن كتابه القيم والمعروف بجوامع السياسة يدل على معرفته الواسعة الشاملة على المجتمعات البشرية. والأهم من ذلك كله، للفارابي كتابٌ يتحدث فيه عن المدينة الفاضلة المثلى عند الفلاسفة (اليوتوبيا). وفي كتابه هذا المقسم الى فصول وأقسام مهمة للغاية، يوضح فيه ابونصر الفارابي آراءه بشأن المجتمعات البشرية استناداً الى رويته الفلسفية والمعرفية.
وكان ابو نصر الفارابي موسيقاراً حاذقاً فذاً قل نظيره في التاريخ. ومن المؤرخين هناك من عزا اختراع آلة القانون الموسيقية الى الفارابي الذي كان عازفاً بارعاً ناهيك عن أنه ألف كتباً ورسائل عدة فيما يخص فن الموسيقى وعلم اللغات.
يحكى أن أبا نصر الفارابي كان يوماً ما قد حضر مجلس سيف الدولة الحمداني، وقام بتشخيص وتصحيح جميع الأخطاء التي صدرت عن العازفين والملحنين والموسيقيين، ولم يلبث أن فتح حقيبة كان يحملها وأخرج منها اعواداً فضرب بها وأخرج لحناً فضحك من كان في المجلس، ثم غيّر التركيب وضرب بها، فبكى الحاضرون جميعهم في المجلس، من غير تركيبها وحركها، فنام كل من في المجلس حتى البوابين والحراس، فتركهم نياماً وغادر المجلس.
وكان الفارابي يرى أن سعادة الانسان تكمن في ترك التعلق بمظاهر الحياة المادية ويعتقد أنه لا يحق لأحد أن يدرس العلم والمعرفة إلا أن يظهر نفسه واخلاقه من كل رجس ودنس ويستغني عن الآخرين. وكان ابونصر الفارابي يولي اهمية بالغة لتربية وتزكية نفسه وكذلك طلابه ولا يعتني في حياته الشخصية بالمال والجاه والمنصب. ويقال إن عدم رغبته في جمع مؤلفاته وآثاره انما هو يدل على عظمة روحه ورقيها. وكيفما كان فان هذا الفيلسوف العبقري ترك لنا مجموعة رائعة من الكتب والرسائل الفريدة من نوعها.
من جهته، سمى شيخ الرئيس ابو علي سينا نفسه تلميذ مدرسة الفارابي العلمية الفلسفية، وقال إنه أدرك ما شرحه أرسطوطاليس في كتاب «ما وراء الطبيعة» من خلال مطالعة وقراءة رسائل أبي نصر الفلسفية.
وحاول الفارابي في نتاجاته الفلسفية المتعددة أن يقرب الفلسفة بالمعتقدات الدينية لدى عامة الناس وبعبارة أخرى حاول عن طريق المبادئ الفلسفية أن يجنب المعتقدات الدينية عن السقوط في ورطة الخرافات والشبهات. ويثبت الفارابي، على سبيل المثال، ان الفلسفة فيما يرتبط بقضية خلق الكائنات أدق من الأنباء الدينية وكذلك أقرب الى التوحيد. اضافة الى ذلك، كان الفارابي يرى أن تعلم الفلسفة يعدّ كباقي العلوم أمراً ضرورياً للناس.
ومن اجل الترويج للفلسفة، سعى كثيراً أن يقربها باللغة والمصطلحات الدينية. وجدير بالاشارة هنا الى أن هذا المنهج أي تقريب وتعريف الفلسفة بالمفردات والمصطلحات الدينية، تم إتباعه كاملاً في أواسط القرن العاشر الميلادي، وذلك في النتاجات الصادرة عن إخوان الصفا، بيد أن البعض من الشخصيات نهضوا بوجه مثل هذه الآراء الفلسفية ورفضوها رفضاً باتاً. وفي كتابه الذي ألفه رداً على الفلاسفة.
الامام ابو حامد محمد الغزالي في كتابه ردّاً على الفلاسفة انتقد الفيلسوفين أبا علي سينا وأبا نصر الفارابي، رافضاً آراءهما ومعتقداتهما الفلسفية، ولكنه وصف الفارابي وابن سينا بكبار الفلاسفة.
فوجود مثل هذه النقاشات والخلافات في وجهات النظر الفكرية ترسم لنا الجو الذي كان يحتم على الفلاسفة بأن يعيشوا بمعزل عن الناس ويحتملوا ما يمارس عليهم من الضغوطات الاجتماعية.
وأخيراً توفي ابو نصر الفارابي هذا الفيلسوف البارز والنابغة الخراساني الذي يقلّ نظيره حيث تركت اعماله وافكاره بصماتها في عالم الفسلفة، توفي سنة ۳۳۹ للهجرة في مدينة دمشق عن عمر ناهز الثمانين عاماً.