السلام عليكم أيها الأكارم ورحمة الله وبركاته.أطيب تحية من الله مباركة نهديها لكم في مطلع ثامنة حلقات هذا البرنامج فأهلاً بكم ومرحباً.
نستكمل – في هذا اللقاء – الحديث عن ملحمة الشهيدين الزكيين "محمد الطاهر وإبراهيم المطهر من شهداء ملاحم السبي في القيام الحسيني المقدس.
وقد تناولنا في الحلقتين السابقتين مشاهد رواية إستشهادهما طبق ما جاء في كتب الأمالي للشيخ الصدوق – رضوان الله عليه – وتعرفنا الى تجليات الرأفة المحمدية في سيرتهما العطرة وهم ينقذان عبد قاتلهما وإبنه من النار عندما أمر هذا الشقي عبده فليح وإبنه الشاب بقتل هذين الكوكبين من كواكب الهداية المحمدية.
ونتابع اليوم قصة إستشهادهما وهما يسعيان لإنقاذ قاتلهما من ظلمات الجهالة وسوء العاقبة، تابعونا على بركة الله..
بعد أن تمرد غلام الشقي وإبنه على أمره بقتل شبلي مسلم بن عقيل – عليهما السلام – بسبب جميل ما شاهداه منهما ثم تعرفهما الى هويتهما، غضب الشقي وصاح مخاطباً لهما:لا يلي قتلكما غيري..
وأخذ الشقي السيف ومشى أمامهما يجرهما وهما – عليهما السلام – مكتفين الى شاطئ الفرات، فسعيا إلى إنقاذه من عاقبة فعله ولو بتعريض نفسيهما الزكيتين للرق والعبودية، فقالا له: يا شيخ، إنطلق بنا الى السوق، وبعنا وإستمتع بأثماننا فلا يكون محمد – صلى الله عليه وآله – خصمك في القيامة.
ولكن الشقي رفض هذا العرض الكريم ولم يأبه بتحذيرهما له من سوء العاقبة، فأجابهما بغلظة: لا ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما الى عبيدالله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله – صلى الله عليه وآله –
جاب بجحود: ما لكما من رسول الله بقرابة.
وهنا عرضا عليه عرضاً آخر عسى أن لا يقع في جريرة سفك دمهما الطاهر، قالا له: يا شيخ، فائت بنا الى عبيدالله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره.
وكان في هذا العرض الكريم تعريض نفسيهما الزكيتين لبطش الطاغية ابن زياد رغم علمهما بشدة غضبه للعترة المحمدية وتعطشه لدمائهما خاصة وأنهما نجلي المولى مسلم بن عقيل وهو – عليه السلام – الذي أطاح بغروره الشيطاني وجندل خيرة فرسانه قبل استشهاده.
لقد عرض هذان الشهيدان الزكيان هذا العرض الكريم وهم موقنان بالموت كما أسلفنا، وكل ذلك عسى أن يرعوي ذلك الشقي فلا يجلب لنفسه الخسران المبين ويغلق على نفسه باب التوبة بسفك دمهما.
ولكن الشقي رفض بجهالته عرضهما الكريم وقال: ما الى ذلك سبيل إلا بالتقرب الى عبيدالله بن زياد بدمكما. فسعيا أخيراً لإثارة المشاعر الإنسانية فيه لعله يرعوي وينجو من سوء العاقبة، فقالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سننا.
قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً.
قالا: يا شيخ إن كان ولابد فدعنا نصلي ركعتان.
قال باستكبار: صليا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.
فصليا – عليهما السلام – أربع ركعات وجددا فعل أبيهما المولى الغريب مسلم على قصر الإمارة في مسجد الكوفة قبل استشهاده – عليه السلام – ثم رفعا طرفيهما الى السماء فناديا:
"يا حي يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق
فقام الشقي الى محمد الطاهر – وهو الأكبر – فضرب عنقه وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة.
فأقبل إبراهيم المطهر على بدن أخيه وهو يتمرغ بدمه الطاهر ويقول: حتى ألقى رسول الله – صلى الله عليه وآله – وأنا مختضب بدم أخي.
فقال الشقي بحقد: لا عليك سوف ألحقك بأخيك.
ثم قام – عليه لعائن الله – الى ابراهيم المطهر فضرب عنقه وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنيهما الطاهرين المطهرين في الفرات وهما يقطران دماً.
وشاء الله أن يظهر كرامة هذين الشهيدين المحمديين عليه، وذلك بسرعة إستجابته لدعوتهما قبل مصرعهما، فحكم بحكمه على قاتلهما الشقي.
وتجلت القدرة الإلهية في أن يجعل الله قصاصه العادل على يد الطاغية الذي تقرب إليه الشقي بدم هذين الشهيدين؛ فخسر الدنيا والآخرة وباء بغضب الله ولعائنه.
فقد اضطر الطاغية ابن زياد الى أن يلقي مسؤولية الجريمة بعد اتضاح بشاعتها على هذا الشقي، لكي يبرأ منها طاغيته يزيد ونفسه وهو الذي وضع جائزة لمن يأتيه برأسيهما – عليهما السلام –.
لقد بلغت الجهالة بهذا الشقي أن يقص في المجلس العام لإبن زياد كل ما جرى وما خاطبه به الشهيدان وما عرضاه علي وما أجابهما به وهو يتقرب لإبن زياد برفض عروضهما والإصرار على قتلهما بتلك الصورة البشعة ففضح الطاغية وهو يصرح مراراً بأمر طلبه لجائزته المشؤومة.
جاء في آخر مشاهد الرواية بعد ذكر ما قصه الشقي، قول الراوي:
قال ابن زياد: فأي شيء قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفيهما الى السماء وقالا: (يا حي يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحق)، فقال ابن زياد: فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟
فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له.
فقال الطاغية: إنطلق به الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فأضرب عنقه ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه.
فانطلق الشامي وفعل ما أمره ابن زياد وجاء برأس الشقي ونصبه على قناة فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله – صلى الله عليه وآله –.
أيها الأفاضل، لقد اشتملت ملحمة شبلي مسلم بن عقيل – عليه وعليهما السلام – عدة مصاديق مهمة لنصرتهما لله ونصرته تبارك وتعالى.
وهذه مصاديق مهمة جديرة بمزيد من التأمل يحدثنا عنها أخونا الحاج عباس باقري في الدقائق التالية؛ نستمع معاً...
باقري: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم أيها الأطائب ورحمة الله وبركاته. نصرة الله تبارك وتعالى تتمثل في أوضح وأهم مصاديقها في نصرة دينه تبارك وتعالى ودين الله تبارك وتعالى هو الدين الحق الذي مثله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، الذي بلغه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. هذا الدين الذي حرفه بني امية، حرفه من جاء بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من الأئمة المضلين ومن أشياعهم. هذان الشهيدان من شهداء السبي محمد الطاهر وابراهيم المطهر سلام الله عليهما قد نصرا دين الله بصورة عملية وذلك من خلال العمل به وعرض صورة مشرقة للنهج المحمدي وهما في أقسى الظروف وأشد المحن التي يمكن أن تمر بأطفال في هذه الأعمار المبكرة وهم لم يتجاوز ولم يبلغوا العقد الأول من عمريهما الشريفين. نلاحظ في جميع مقاطع هذه الرواية كيف سعيا بكل جهديهما وبإخلاص الى إنقاذ سجانهما من سوء العاقبة بتعذيبهما عندما عرفا بنفسيهما. عندما كانا يصومان النهار فعرف السجان أنهما ليسا شخصيتين عاديتين. عندما لاحظ الغلام الذي أراد أن يقتلهما جميل تكريمهما لعباد الله دون تمييز بين حر او عبد. هذه معالم الاسلام المحمدي النقي، عندما انقذا الشاب إبن قاتلهما بتلك الطريقة الجميلة، حذراه من النار وبكلمات أشعراه أنهما يريدا صالحه. كانا عليهما السلام قد أيقنا بالموت وهذا الأمر واضح منذ بداية الرواية يعني تصريح عندما كانا في بيت العجوز أشارا الى أن هذه الليلة هي الليلة الأخيرة قبل أن يفرق بينهما الموت، الله تبارك وتعالى ألهما بأنهما مقبلان على مصرع هم ملاقيه، شهادة يخلدها الله تبارك وتعالى. اذن كانا قد أيقنا بالموت، جميع محاولاتهما لإبعاد جريرة قتلهما عن العبد فريح ابن القاتل بل وعن القاتل نفسه، كلها تعبير عن الرأفة المحمدية بالعباد. هذه هي من أوضح وأهم مصاديق النصرة لله تبارك وتعالى وهو ما قام به هذان الشهيدان. كان الله ايضاً ناصراً لمن نصره وقد نصرهما عليهما السلام، نصرة الله لهما تمثلت في موارد متعددة منها سرعة إستجابته لدعاءهما بحيث جعل مصير قاتلهما أن يكون القتل على يد من تقرب وازدلف اليه وهذه من المشاهد الخالدة في التاريخ الانساني تبين قدرة الله تبارك وتعالى، إبن زياد بلاشك فرح بقتلهما وبالمجيء برأسيهما ولكن الأمر كان بالصورة التي شاءت وجرت ارادة الله تبارك وتعالى في أن يؤدي الى فضيحة إبن زياد فيضطر الى قتل قاتلهما، هذا هو المظهر الأول ومن المصاديق البارزة لنصرة الله تبارك وتعالى لهما. المظهر الثاني والمصداق الثاني قضية مرقدهما الشريف، هذا المرقد الذي خلده الله تبارك وتعالى على مدى الأجيال ليكون مناراً من منارات القيام الحسيني المقدس ليستنشق ويشم المؤمنون عندما يزورونهما عبير الاسلام المحمدي النقي، عبير الولاية العلوية المحمدية الجميلة التي تجلت في هذين الشهيدين المظلومين من شهداء السبي صلوات الله عليهم أجمعين.
كانت هذه مشاركة أخينا الحاج عباس باقري في حلقة اليوم من برنامج (شهداء السبي) فشكراً له.
وشكراً لكم أيها الأطائب وأنتم تتابعون الإستماع للبرنامج الذي يأتيكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
أيها الأفاضل، وكما تقدمت الإشارة فإن من أوضح مصاديق نصرة الله لشبلي مسلم هو تخليد مرقدهما الشريف كأحد منارات القيام الحسيني المقدس.
وقد أشار بعض العلماء كآية الله الشيخ النهاوندي في كتاب العبقري الحسان في أحوال صاحب الزمان، أن هذا المشهد المقدس من المشاهد التي يتردد عليها إمام العصر المهدي الموعود – عجل الله فرجه – وقد فاز بلقائه فيه عدة من الثقاة الأخيار.
ولذلك اهتم بزيارته الصالحون على مدى التأريخ، قال آية الله الفقيه الفاضل الدربندي في كتاب (أسرار الشهادة) بعد نقله وتعليقه على روايات إستشهادهما – عليهما السلام -:
"لا يخفى أنه كما يستحب البكاء على هذين الطفلين المظلومين الشهيدين، فكذلك يستحب زيارة قبرهما وتعميره عند الإحتياج.. وقبرهما في المكان المعروف الآن... عند المسيب.. وكون قبرهما في ذلك المكان كأنه مما عليه إجماع الطائفة الإمامية وقد ثبت بالنقل المتظافر أن كامل الفضلاء من الفقهاء والمجتهدين والمحدثين.. كانوا يقصدون ذلك المكان لزيارتهما – عليهما السلام -.
ونقرأ أخيراً لأحد أدباء الولاء قوله في رثائهما تحت عنوان (ذبيحا السبي):
لا ينقضي حزني ونزف تحملي
لرزية حلت بطفلي مسلم
أنى تجف مدامعي وثراهما
ما زال رطباً من ندى أزكى دم
يجدو لثارات الحسين وصحبه
ولثأر أيتام النبي الأكرم
فدم البراءة نبعه من أحمد
سفكوه زلفى للزنيم المجرم
ودم الطفولة في المسيب قد جرى
من أزهرين من السبايا الأنجم
قد قطعوا نحريهما بتبسم
بغضاً لحيدرة الوصي الأعظم
يا آه وجدي كم أصابهما العدى
بجراح غدر في الهجوم الألئم
لما تبادر للخيام أراذل
بسباقها المحموم نحو المغنم
سلب وحرق للخيام وأهلها
والآل هامت بالبراري تحتمي
هاما حيارى في البراري بعدما
قتل الحسين وهُدّ كهف الضيغم
أسرا وركب الأهل أبعده النوى
سبياً الى شام الفجور الأشئم
حملا الى طاغ تفجر حقده
علج كفور من زياد المأثم
فأذاق ملعون الإله حشاهما
جوعاً وتعذيباً بأقسى الأسهم
فتضاعفت بهما الجراح مذيبة
قلبيهما في جوف سجن مظلم
حتى انقضى عام بكل جراحه
وأتاهما داعي الإله الأرحم
خرجا يتيما مسلم ولمصرع
لهما تخيّر في القضاء الملهم
لشهادة في غربة تدمي الحشا
طالت بسبي للغيارى مؤلم
ذبحا على شط الفرات وقطعا
ليواسيا خطب الحسين ومسلم
رأساهما قطعا لينزف منهما
كدم الحسين ومسلم أزكى دم
حملا بمخلاة الى كوفانها
إذ يهديان تقرباً للمجرم
إذ يهدينا كرأس يحيى حارساً
لبغية يهدى ببغي أقدم
وبهذا نصل أيها الأكارم الى ختام حلقة أخرى من برنامج (شهداء السبي) قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
شكراً لكم على كرم المتابعة ودمتم في أمان الله.