السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله تحية من الله مباركة طيبة نهديها لكم ونحن نلتقيكم بتوفيق الله عزوجل وفضله في الحلقة الثالثة عشر من هذا البرنامج.
نتابع – أيها الأكارم – في هذا اللقاء سيرنا المعنوي مع ركب السبايا المحمديين وهم يساقون أسرى الى طاغية الشام بعد واقعة كربلاء الدامية. ونواصل تتبع أخبار من استشهد منهم – عليهم السلام – في منازل هذه الرحلة المفجعة القاسية.
وفي الحلقة السابقة توقفنا عند منزل (سنجار) الذي شهد استشهاد مولاتنا زينب الصغرى بنت أميرالمؤمنين – عليهما السلام – وهي صاحبة المرقد المقدس على الربوة المباركة بها في جبل سنجار.
وسنجار هي آخر منازل ركب السبايا في العراق ومنها توجه الى الشام، وفي أول منازله فيها شهد فاجعة استشهاد: محسن الطالبي السقط الشهيد في مدينة بالس
أيها الإخوة والأخوات، مشهد هذا السقط الشهيد من العيالات الحسينية هو من مشاهد شهداء السبي التي خلدها الله عزوجل لكي تحكي مظلومية للأجيال مظلومية شدة ما قاسته هذه العيالات النبوية ولكي يكون مناراً من المنارات المذكرة بقيم القيام الحسيني المقدس.
ومدينة (بالس) هي بلدة قديمة كانت تقع على ضفة الفرات الغربية وهي أول بلاد الشام للقادم من العراق وتسمى اليوم (مسكنة) وقد إندرست البلدة القديمة إلا مشاهدها الثلاثة التي يربط الأول منها بحرب صفين والآخران بالقيام الحسيني المقدس وملحمة ركب السباء والإباء.
ومنها مشهد هذا السقط الطالبي الحسيني الشهيد والمستفاد من النصوص التأريخية أنه كان معروفاً منذ القرون الهجرية الأولى، قال الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد الملقب بإبن العيدم وهو من مؤرخي القرن الهجري السابع في كتابه (بغية الطلب في تأريخ حلب):
(مدينة بالس، بها مشهد علي بن أبي طالب – عليه السلام – وبها مشهد الطرح [أي السقط الذي يولد ميتاً] وبها مشهد الحجر يقال: إن رأس الحسين – عليه السلام – وضع عليه عندما عبروا بالسبي).
ومثل هذا القول نجده في كتاب (الإشارات في معرفة الزيارات) للسائح الإسلامي الشهير أبي الحسين علي بن شداد في كتابه (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة) وحدد موقع هذه المشاهد بأنها على جبل الخزام، مشيراً الى أنها تقصد وتزار، وقد حدد سماحة الشيخ الدكتور جعفر المهاجر الموقع الحالي لهذا المشهد المقدس، فقال في كتابه (موكب الأحزان، سبايا كربلاء وخارطة الطريق):
(مشاهد بالس/مسكنة، وبالس بلدة تأريخية قديمة.. كانت يوم عبرها ونزل فيها موكب السبايا على شاطئ الفرات... وفيما بقي من القرية القديمة بعد أن غمرت مياه السد أطلال بالس التأريخية مشهدان: مشهد الطرح: أي الحمل الذي طرحته أمه قبل أوانه، ونحن نعرف أن موكب السبايا ضم زهاء العشرين إمرأة، فمن المتوقع أن يكون بينهن عدد من الحوامل، وأن يتعرض بعضهن لفقدان حملهن بسبب مشاق الطريق، فهذا مشهد بني على المكان الذي دفن فيه أحد الأجنة).
ثم نقل حفظه الله نص كلام السائح الهروي عن المشهد الثاني وحدد الموقع الحالي لهذين المشهدين المقدسين:
(الثاني مشهد الحجر، يقال إن رأس الحسين – رضي الله عنه – وضع هناك عندما عبروا بالسبي، وكلا المشهدين [يقعان] على الضفة اليمنى لبحيرة الأسد، على تل تحيط به مياه البحيرة من ثلاث جهات يتوسط مقبرة قديمة مما يدل على أن الناس كانوا يدفنون موتاهم قرب المشهد تبركاً به).
أعزاءنا المستمعين، يتضح مما ذكرته المصادر التأريخية المتقدمة وغيرها عن مشهد هذا الشهيد الطالبي من شهداء السبي وكذلك عن مدينة بالس نفسها إهتمام المؤمنين عبر الأجيال به وبزيارته والتبرك به.
وقد ذكرت المصادر التأريخية أن مدينة بالس قد خضعت لحكم الحمدانيين في زمن سيف الدولة وقد جعل والياً عليها ابن عمه الشاعر والفارس أبا فراس الحمداني وقد ذكرها الأخير في شعره.
وهذه الملاحظة ترجح أن يكون إعمار وتوسعة مشهد هذا السقط االشهيد وكذلك مشهد رأس الحسين – عليهما السلام – كانا في القرن الهجري الرابع إثر كرامة شبيهة بما جرى مع مشهد الحسن الشهيد بن الحسين – عليهما السلام – في جبل الجوشن في حلب.
: وهذا ما سنتعرف عليه في الحلقة المقبلة إن شاء الله، ونشير هنا الى أن وجود مقبرة تأريخية قديمة حول هذين المشهدين وكذلك حرص أهالي المنطقة على دفن موتاهم قربهما وبقائهما على الرغم من كثرة الحروب التي شهدتها المنطقة، كل ذلك يشير الى عظم منزلتهما في قلوب الناس بحيث يجتهدون في حفظهما على الرغم من كل تلك التقلبات السياسية.
وهذه الظاهرة بدورها تشير الى إظهار الله جلت قدرته لكرامات في مشهد هذا الشهيد الطالبي من قضاء الحوائج للمتوسلين به الى الله وغيرها من الكرامات التي عرف الناس منها كرامة هذا الشهيد على الله ونصرته عزوجل له، فأقبلوا على تعاهد هذا المشهد بالإعمار المادي والمعنوي كأحد منارات القيام الحسيني المقدس.
أما عن هوية هذا الشهيد المظلوم من شهداء السبي، فلم نجد في المصادر التأريخية المتوفرة لدينا، تصريحاً بها، ولكن يمكن عرض إحتمالات عدة عبر التأمل في النصوص التأريخية.
وهذا ما يفصل الحديث عنه بعض الشيء أخونا الحاج عباس باقري في الدقائق التالية، نستمع معاً:
باقري: بسم الله الرحمن الرحيم سلام من الله عليكم أيها الأحبة. بالنسبة لهوية هذا الشهيد الطالبي العزيز في تلة بالس او مسكنة حالياً يمكن القول إن أقوى الإحتمالات بل إحتمال يكاد يقرب من اليقين أنه سلام الله عليه من ذرية ونسل امير المؤمنين الامام علي عليه السلام، إما من أحفاده يعني من أبناء ولده الحسن او الحسين وأولادهم او من أسباطه يعني من ولد بناته. تعرفون أن المقدار المتيقن من الذين بقوا مع السبايا، مع الرأس الحسيني المقدس والرؤوس التي اعدت الى الشام الذين سبوا الى الشام هم آل الحسين خاصة يعني لم يكن معهم من نساء الأنصار، لأن نساء الأنصار عزلت عنهم في الكوفة حيث جاءت عشائرهم وأخذتهم وهذا من الحقائق المعروفة في تاريخ النهضة الحسينية، اذن بقيت نساء أهل البيت، ونساء أهل البيت سلام الله عليهم العلامة المازندراني الحائري في معالي السبطين أحصى قرابة الأثنين والأربعين امرأة، هؤلاء إما نساء الأمام الحسين، نساء أولاده، زوجاته وجواريه. زوجات أبناء عقيل سلام الله عليه الذين أستشهدوا في كربلاء مع الامام الحسين معظمهم من بنات امير المؤمنين سلام الله عليه. على ضوء هذه الحقائق التاريخية التي يمكن إستخراجها من النصوص التاريخية يتضح أن الاحتمال الأقوى هو أن هذا الشهيد هو إما من أولاد الحسن المثنى بن الامام الحسن المجتبى او عمرو بن الحسن الذي كان مع الأسرى على فرض أن يكون عمرو متزوجاً بإعتبار أن هناك إختلافاً في سنه الشريف بين الستة عشر عاماً الى احد عشر عاماً. او الامام زين العابدين سلام الله عليه، يمكن أن يكون من ولد الامام زين العابدين سلام الله عليه بإعتبار أن زوجته فاطمة بنت الامام الحسن المجتبى سلام الله عليه ام عبد الله كانت معه او من احد أبناء عقيل من زوجاته من بنات امير المؤمنين سلام الله عليهم. هنالك عدة من أبناء عقيل تزوجوا من بنات امير المؤمنين سلام الله عليه ويمكن أن يكون ايضاً ابن لإحدى جواري الامام الحسين سلام الله عليه. الشيخ الحائري ذكر عدة جواري كن مع الامام الحسين سلام الله عليه في ركب السبايا وبين مفارقة السيدة زينب سلام الله عليها وباقي نساء أهل البيت في ركب السبي. هناك إحتمال أخير وهو أن يكون هذا السقط الشهيد من اولاد بعض الذين أستشهدوا في كربلاء من أزواج الجواري اللاتي كن في بيت أمير المؤمنين سلام الله عليه وبقين مع الامام الحسين، ذكر بعضاً منهم العلامة الحائري في كتاب معالي السبطين ولكن بإعتبار النسبة الغالبة من النساء اللواتي حضرن كربلاء هن إما بنات امير المؤمنين او زوجات أبناءه يبقى الإحتمال القوى أن يكون هذا السقط طالبياً علوياً من احفاد الامام أمير المؤمنين سلام الله عليهاو من أسباطه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. هذا الأمر تشهد له الكثير من الشواهد التي يمكن إستجماعها من ملاحظة ما ذكره المؤرخون والنسابة من ذراري او زوجات شهداء كربلاء ومن حضر واقعة عاشوراء منهم سلام الله عليهم اجمعين.
نشكر أخانا الحاج عباس باقري على هذه التوضيحات، ونشير هنا الى معلومة مهمة ذكرتها المصادر التأريخية بشأن مدينة بالس التي يقع على تلها مشهد هذا الشهيد من شهداء السبي.
هذه المعلومة هي أن مدينة بالس كانت تضم منطقة صفين التي شهدت الواقعة الشهيرة بين الجيش العلوي وجيش البغي الأموي سنة سبع وثلاثين للهجرة.
كما أن هذه المدينة تضم كما عرفنا سابقاً مشهداً للإمام علي أميرالمؤمنين أقيم لظهور إحدى كراماته – عليه السلام – في مسيره لحرب صفين؛ أو لكرامة علوية لاحقة هدت الناس الى مشهد هذا الشهيد من شهداء السبي وكرامته على الله نظيرة لما نقلناه في حلقات سابقة بشأن مشاهد شهداء السبي في مدينتي بلط والموصل.
على أن تخليد مشهد هذا الشهيد الطالبي في مدينة بالس يذكر الأجيال بحقيقة أن جلاوزة الحكم الأموي قد اختاروا الطريق الذي سلكه الإمام علي – عليه السلام – لمجاهدة عساكر البغي الأموي في صفين، لكي يسلكوا عبره بركب السبايا من آل محمد وعلي – عليهما وآلهما الصلاة والسلام – وهم أسرى بأيدي أشياع آل أبي سفيان.
وهذا الإختيار يحمل رسالة تقول إن حرب صفين قد انتهت يوم عاشوراء بقتل الحسين وسائر العلويين والطالبيين وأنصاره المخلصين؛ وسبي عيالاتهم بتلك الصورة المفجعة الى طاغية الحزب الأموي في الشام.
وبالتالي الإيحاء للمسلمين بالإنتصار الأموي المزعوم الذي لم يبق لأهل بيت النبوة باقية بعد واقعة الطف؛ وهذا ما يسلب المسلمين الأمل الذي كانوا يعقدونه على أهل بيت النبوة للنجاة من الطغيان الأموي.
وهذه الرسالة الأموية أبطلها الله تبارك وتعالى بقدرته إذ جعل مشهد رأس صفيه الحسين – عليه السلام – في حاضنة واقعة صفين ومشهد هذا الجنين الشهيد المظلوم، من المشاهد الخالدة عبر الأزمان أذن أن ترفع ويذكر فيها إسمه ويستنشق فيها عبير القيم المحمدية الخالصة التي تجلت في القيام الحسيني المقدس.
ولتكون بذلك شاهداً على عجز الطواغيت في إطفاء نور الله الذي تجلى في الحسين وآل الحسين في ملحمة كربلاء وملحمة السبي والإباء.
قال أحد أدباء الولاء يرثي شهيد السبي في بالس:
محسن من عترة المختار هلا
كهلال في سما (بالس) حلا
كان في ركب السبايا ساكناً
رحم الطهر وهي في الغل تصلى
وهو يصلى من لظى آلامها
لهب الأسواط والإرهاق وصلا
وهو يصلى من ظماها ظمأ
ينسل الروح من الأبدان نسلا
وهو يصلى حزة الأقتاب جرحاً
في مسير ليس يلقى فيه ظلا
فتنامى الجرح في الأحشاء حتى
بسريع السوق قد أرداه بسلا
ولد المحسن، هل من فرحة
ودموع الأم قد حيته ثكلى
ولد المحسن يروي محنة
للسبايا هوت العرش المعلى
قد أصابت لنبي اللطف أهلاً
ما رعوا ذمته فيهم وإلا
وهم أزكى البرايا رحمة
وعطاءً بندى اللطف تدلا
ولد المحسن آه قد رأوه
بخضاب من دماء الطف طلا
فعلا (بالس) شجو هاتف
ولد المظلوم يا رباه قتلا
وبهذا نصل الى ختام الحلقة الثالثة عشر من برنامج (شهداء السبي) إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران..
تقبل الله منكم حسن الإصغاء ودمتم في رعاية سالمين.