ولكنّ تأكيدها من قبل مُتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، كشَف لنا، وللكثيرين غيرنا، مُستوى الانحدار الأخلاقي والقِيمي لهذه الإدارة الأمريكيّة وأجهزتها، مثلَما أكّد ما قُلناه في هذا المكان أكثر من مرّةٍ عن فشل حِصاراتها الاقتصاديّة، سواء ضِد إيران أو كوريا الشماليّة، أو سورية، أو حركات تحرير مُقاومة عديدة في العالم، وعلى رأسها “حزب الله” و”حماس” و”أنصار الله”، والقائمة تطول.
فالرئيس ترامب الذي افتَعل الأزمة الحاليّة ضد إيران، خسِر كُل المعارك التي خاضها حتى الآن، وعجِز عن الرّد على إسقاط طائرته، أو حماية سُفن حُلفائه البريطانيين في الخليج {الفارسي}، وها هو يستجدي القيادة الأمريكيّة للجُلوس إلى مائدة الحِوار معه، ودون أن يتلقّى أيّ رد.
التفاصيل تقول إنّ براين هوك، المسؤول عن المِلف الإيراني في الخارجيّة الأمريكيّة بعث برسائلٍ إلكترونيّة إلى قبطان السفينة أخيليش كومار حملت عرضًا “برشوةٍ” بعدّة ملايين من الدولارات، وبِما يُمكّنه من العيش برفاهيّةٍ، وفي أمريكا نفسها، إذا تعاون مع الإدارة الأمريكيّة ووجه السفينة إلى الجِهة التي تُريدها، ولكنّه رفض هذا العرض بإباءٍ وشَمَم، فقرّرت هذه الإدارة التي تدّعي النزاهة وقيادة العالم الحُر، ونشر قيم الديمقراطيّة فيه، فرض عُقوبات عليه، أيّ القبطان، ومُصادرة كُل موجوداته في الولايات المتحدة، فأينَ قيم العدالة، وأينَ القضاء الحُر، وأين حُقوق الإنسان؟
ناقلة النفط الإيرانيّة هذه ستدخل التاريخ لأنّها شكّلت، وتُشكّل، عقدةً لأمريكا، وتفضح فشلها وسياساتها وحِصاراتها، وتُؤكّد في المُقابل على “الدهاء” الإيراني في إدارة المُنازلة الحاليّة ضدها، وعدم الرّضوخ لكُل الأعمال الابتزازيّة التي تُمارسها بالتّالي.
الإيرانيّون رفضوا الخُضوع للابتزاز الأمريكي، وردّوا على احتجاز الناقلة باحتجاز ناقلتين، وما زالوا يحتفظون بالناقلة البريطانيّة في ميناء بندر عباس، كرهينةٍ حتى بعد الإفراج عن ناقلتهم، ولم يُفرِجوا عن بحّارتها إلا اليوم فقط.
تحيّةٌ من القلب لهذا القبطان الهندي الشريف النّزيه الذي أثبت أنّه أقوى من أمريكا، ومن كُل ملياراتها، برفضه قُبول هذه “الرشوة” العار، وقرّر الاستمرار في قيادة ناقلته، وإيصال حُمولتها إلى سورية المُحاصرة ظُلمًا، وعُدوانًا، واستكبارًا، بطريقةٍ أو بأُخرى، وهو الذي تعرّض للاحتجاز وزملاؤه في سجن سلطة جبل طارق لحواليّ ثلاثة أسابيع، ودون أن يتنازل أو تضعُف معنويّاته.
في هذا العالم رجال لا يشتريهم المال، ولا يتنازلون عن قيمهم الأخلاقيّة، مهما تعاظمت الضّغوط والعُقوبات عليهم من دولٍ استعماريّةٍ مثل الولايات المتحدة، والقبطان كومار على رأسهم، وعلينا أن نتذكّر بأنّه ليس إيرانيًّا، وربّما ليس مُسلمًا أيضًا، وإنّما رجل قيم ومبادئ وكرامة.
مُؤلم جدًّا أن يتزامن هذا الموقف القيمي المُشرّف للقبطان كومار مع المُحاكمة التي يقِف في قفص مُتّهميها الرئيس السوداني عمر البشير الذي باع ضميره وحوّل جيش بلاده إلى جيشٍ مرتزقٍ عندما زُجَّ به في حرب ظالمة في اليمن، وضد واحد من أنبل الشعوب العربيّة، مُقابل بضعة ملايين جاءته في طائرةٍ خاصّة من المملكة العربيّة السعوديّة، وهو المُتقدّم في السّن، وليسَ له أولاد حتى يُورّثهم.
لا يحتاج الكابتن كومار الذهاب إلى أمريكا والعيش فيها، فبلاده الهند ذات الحضارة التي تمتد لآلاف السنين أجمل كثيرًا، وأعرق، من هذه “الجنّة” الأمريكيّة المُصطَنعة، التي أغلق ترامب أبوابها في وجهه، ولقمة عيش شريفة في إحدى مُدنها، أطيب وأطعم وأكثر هناءً، من أخرى معجونةٍ بعار شِراء الذِّمم الأمريكي.
نختم بإهداء هذ الموقف الأخلاقي المُشرّف للقبطان كومار إلى بعض العرب الذين يسخرون من الهنود، ويُمارسون كُل أنواع العنصريّة والفوقيّة ضدّهم، لأنّهم فُقراء فقط، ناسين أن بلادهم دولة نوويّة، تملك أكبر عدد من مُهندسي التكنولوجيا وخُبرائها في العالم، لعلّهم يُغيّرون مُمارساتهم الاستعلائيّة هذه، ويعرِفون قدرهم، وحال الانهيار التي نعيشها قبل أن يعرفوا قدر هؤلاء الناس، وشُكرًا للمرّة الميلون للقُبطان كومار.
* عبد الباري عطوان - راي اليوم