لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا رازق المقلين، يا رجاء المذنبين، يا قرة عين العابدين،...). ونحدثك اولا عن عبارة (يا رازق المقلين)، فماذا نستلهم منها؟
واضح ان عبارة (المقل) معناها: الفقير، لذلك لا ضبابية في العبارة بل هي من الوضوح بمكان كبير. بيد ان ورودها في سياقالتوابين والمذنبين، يقتاد قارئ الدعاء الى استخلاص نكتة هي ان عبارة (المقل) بدلاً من الفقير مثلاً نجد لها نكتة هي: ان الانسان يقتنع بما هو كفاف، وهو شعار المؤمنين، ولكن اذا قل الشيء عن الكفاف حينئذ فان اصطلاح (المقل) ينسحب عليه فيكون بحاجة الى رفع القلة وتحقيق الكفاف.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا رجاء المذنبين)، وهي عبارة لها وضوحها ايضاً، ولكن نحتاج الى القاء الانارة عليها، وهي: ان العبارة قد استخدمت (رجاء) بدلاً من غيرها مثل: أمل او منى، فما هي نكتة ذلك؟
في تصورنا، ان كلمة الرجاء هي ضد القنوط او اليأس، قبالة الامل والامنية ونحوهما، لذلك فهي: تتناسب مع الآية الشريفة في سورة يوسف: «وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ». اذن النكتة هي: ان المذنب ينبغي ان لا ييأس من رحمته تعالى البتة، وقد ورد ان احد المذنبين الكبار وجده الامام زين العابدين (عليه السلام) قد اوشك على اليأس من غفران ذنبه الكبير، فخاطبه عليه السلام بما معناه: أن يأسك من غفران الله تعالى اشد ذنباً من ذنبك الكبير الذي يئست منه.
بعدها نواجه عبارة (يا قرة عين العابدين)، فماذا نستلهم منها؟
الملاحظ ان هذا المقطع من الدعاء يستخدم تعبيرات متنوعة بالنسبة الى الممارسات العبادية المرتبطة بوثاقة مع الله تعالى: كالعارف او المريد، فنجد مثلاً كلمة (يا سرور) وكلمة (يا أنيس)، هنا في العبارة التي نتحدث عنها يستخدم الدعاء (يا قرة عين العابدين)، وهذا يعني انه استخدم مصطلحاً يتناسب مع (العابدين)، وهو (قرة عين)، لذلك يمكننا الذهاب الى ان (قرة عين)وهي تعني: برودة العين مقابل سخونتها، انها ترمز الى الشوق نحو الله تعالى، فتهدأ بذلك بعد ان تحقق هدفها وهو ملاقاة الله تعالى في مناجاتها لذلك، فان (العابد) وهو الذي يمارس غالباً مختلف الشعائر من صلوات واذكار وادعية، حينئذ فانه يتشوق بذلك الى الله تعالى فتقر عينه بما حققه من المناجاة.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا منفس عن المكروبين) ثم (يا مفرج عن المغمومين)، واخيراً (يا اله الاولين والآخرين). المهم هو ملاحظة هذه العبارات وفي مقدمتها فقرة (يا منفس عن المكروبين). فماذا نستلهم منها؟
لكن قبل ذلك يتعين علينا ان نذكرك بعبارة (يا مفرج عن المغمومين)، حيث يجرنا ذلك الى التساؤل اولاً عن الفارق بين (المكروب)وبين (المغموم)، ثم الى التساؤل عن الفارق بين (التنفيس) وبين (التفريج) ولعل قارئ الدعاء يتساءل، لماذا هذا الاهتمام بالفوارق اللغوية بين الكلمات المتقدمة وبين مجانسة بعضها للبعض الآخر عبر هذه الصفة او تلك؟
والجواب هو: ان قارئ الدعاء لامناص له من ملاحظة هذه الفوارق والا ما معنى ان يقرأ الدعاء دون ان يفهم الدلالة التي تنطوي عليها هذه الجملة او تلك.
*******