لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن مقطع ورد فيه: (يا من يخلق ولا يُخلق، يا من يهدي ولا يُهدى، يا من يُحيي ولا يُحيى، ...).
ان هذه الفقرات وما بعدها تظل متماثلة في دلالاتها المتقابلة، اي: التقابل بين الله تعالى وبين مخلوقاته، حيث تنحصر الفاعلية الوجودية بالله تعالى، ولا حول ولا قوة لمخلوقاته الا بما يهبهم من الفاعلية، لذلك، فان عبارة (يا من يهدي ولا يُهدى) تعني: انه تعالى صاحب الفاعلية في هدايته للآخر، وأما الآخر فلا فاعلية له في هذا الشأن وغيره والنكتة هنا، ينبغي ان نستثمرها من مفهوم (الهداية) حتى نتمسك بمبادئه تعالى، وهي المبادئ الهادية الى ما هو الخير للبشرية وسواهم.
واذا نتجه الى فقرة: (يا من يُحي ولا يُحيى) فان النكتة هي ان نستحضر في اذهاننا الحياة الآخرة، حيث ان عبارة (يا من يُحي)معناها: انه تعالى يحي الموتى، ويحشرهم في عرصة القيامة، ويحاسبهم ويثيبهم ويعافيهم. والمهم هو ان نستثمر هذه المفردة وهي احياء الاموات، لنتهيأ الى الآخرة وذلك بأن نتزود بالتقوى، فانها خير الزاد.
واذ نتجه الى عبارة (يا من يخلق ولا يُخلق)، نتبين بوضوح بان التقابل بين ابداعه تعالى للمخلوقات، وبين مخلوقاته التي لا فاعلية لها في الخلق: عندئذ نستثمر هذه المفردة، حتى نصلها بعظمة الله تعالى، حيث ينفرد بها تعالى، وحيث تنسحب خيراً على مخلوقاته، اي: ان عظمته تعالى لا تنحصر في عملية خلقه للبشرية وسواهم، بل تتجسد في رحمته تعالى، اي: عظمة رحمته أيضاً، وهذا هو مطلق الخير فيما لا حدود له. ونتجه الى عبارة (يا من يسأل ولا يُسأل)، فماذا نستخلص منها؟
ان العبارة السابقة على فقرة (يا من يسأل) هي (يا من يُحي)، وهذا يعني ـ من زاوية البناء الفني لمقطع الدعاء ـ ان هذا المقطع يتسلسل بموضوعاته تدريجياً بحسب التسلسل الموضوعي لها، اي: التسلسل الزمني للاحداث، فان الله تعالى عندما يحي الموتى، فان المرحلة الزمنية بعد الاحياء هي: محاسبة المخلوقات، وهذا ما جسدته عبارة (يا من يسأل ولا يُسال) حيث نستلهم منها نكتة في غاية الاهمية هي: ان المحاسبة امر لا مناص منه، انه تعالى (يسأل) عباده عما صنعوا، عما مارسوه من المهمة العبادية، عن مدى التزامهم وعدمه، ثم ما يترتب على ذلك من المصير الابدي للشخصية.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من يطعم ولا يُطعم). هذه العبارة من حيث الموقع العضوي لها في الفقرة التي نتحدث عنها، يبدو وكأنها اجنبية عن التسلسل الموضوعي، ولكنه الامر ليس كما يخيل للقاصر فكرياً، ان الاطعام هو زاد دنيوي وأخروي، لذلك فان احدهما ـ وهو الاخروي ـ مترتب على الآخر ـ وهو الدنيوي، اي: ان الجنة والنار مثلاً (اعاذنا تعالى منها) فيها الاطعام، والاطعام أحد الدوافع التركيبية التي اودعها تعالى في لانسان سواء أكان ذلك دنيوياً وأخروياً، وفي الحالتين، فان الجنة مثلاً (وهي تحظى بأوصاف لا مجال الآن للحديث عنها من حيث الطعام وأنماطه) يكشف لنا عن مدى اهمية هذا الدافع في تركيبة الشخصية، وطرق اشباعها، والمفروض ان نستثمر قراءة هذه المفردة لتعديل سلوكنا العبادي.
*******