نتابع حديثنا عن الادعية المباركة'>الادعية المباركة ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الان عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من احسانه قديم، يا من قوله حق، يا من وعده صدق، ...).
ونحدثك الان عن العبارة الاولى، وهي: (يا من احسانه قديم) القدم هنا بمعنى الازلية، اي: ضد الحدوث، بمعنى عدم سبق ذلك بوجود، والدلالة تشير الى ان احسان الله تعالى متفرد: مثل سائر صفاته المتفرد بها تعالى، حيث لا شريك له، ولا مماثل، ولا سبق ولا لحوق، والمهم هو ان هذه العبارة جاءت بعد عبارات تتحدث عن الرحمة، مثل (يا من عطاؤه شريف)، (يا من فعله لطيف)،(يا من لطفه مقيم). لذلك تجيء عبارة (الاحسان) هنا لتشير الى قدم هذه الرحمة متجسدة في (الاحسان) الذي (حسن) الشيء، كما هو واضح.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من قوله حق)، وهذه العبارة بدورها: استكمال لسابقتها او تفرع لها، وذلك لان الاحسان واللطف والعطاء. عبارات حق، ولذلك جاءت عبارة (يا من قوله حق) مشتقاة من ذلك، بالاضافة الى ان الله تعالى (حق) في كل ما يعبد به العبد من الرحمة، وهذا يفسر لنا العبارة اللاحقة وهي: (يا من وعده صدق)، هنا نحسبك تتساءل قائلاً: ما هي الصلة بين عبارة:(يا من وعده صادق) وعبارة: (يا من قوله حق)؟
واليك الجواب: ان الله تعالى عندما يتفضل قائلاً: ـ على سبيل المثال ـ، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
ان هذه الكلمات عندما يعد بها لله تعالى عباده بأنه يتوفاهم مَعَ الأَبْرَارِ، وانه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، تعني ان قوله (صدق)، من هنا، فان اشارة الدعاء الى الاحسان واللطف والعطاء، وكون ذلك جميعاً قول صدق من الله تعالى: حينئذ نستخلص بوضوح ان ما يرسمه تعالى لنا من المبادئ، وما يعدنا به من الثواب، يظل (صدقاً) وليس مجرد ميعاد: كما هو واضح.
بعد ذلك نواجه اربع عبارات يختم بها المقطع، وهي: (يا من عفوه فضل، يا من عذابه عدل، يا من ذكره حلو، يا من فضله عميم). هذه العبارات تتطلب شيئاً من القاء الاضاءة حيالها، فنقول: ان عبارة (يا من عفوه فضل) تظل امتداداً للعبارات السابقة التي تتحدث عن رحمة الله تعالى من خلال الاحسان اللطف والعطاء من الله تعالى، لكن العبد الممارس للذنب مثلاً: كيف يتعامل الله تعالى واياه؟
ثمة عقاب وثمة عفو، ثم: ثمة ثواب، ثم: ثمة تعامل مرجوّ. اولئك جميعاً تحتاج الى توضيح جديد. فماذا نستخلص من الدلالات؟
ان احسان الله تعالى لا ينحصر في تقديمه العطاء للعبد، بل ان العفو عن العبد في حالة وقوعه في الذنب، يظل بدوره عطاء كبيراً. لذلك جاءت العبارة القائلة: (يا من عفوه فضل) تجسد المفهوم المتقدم، ألا وهو انه تعالى يتفضل على عبده بالعطاء من جانب، وعلى العفو عن سيئاته من جانب آخر، وبذلك تستكمل الرحمة غير المحدودة من الله تعالى. ولقد جاءت العبارة بكلمة (العفو)اتشير الى ان العفو يعني: اعفاء الشيء تماماً، اي: عدم ترتيب الاثر عليه، كما لو ان الرياح مثلاً مسحت اثر التراب او المشي من الارض حيث لا يبقى اثر لذلك، وهكذا تجئ عبارة (يا من عفوه فضل) مجسدة للمعنى المذكور، معبرة عن عظمة رحمته تعالى بحيث لا تبقي اثراً لاساءة العبد.
*******