لا نزال نحدثكم عن الادعية المباركة ومنها دعاء الصباح للامام علي(ع) حيث حدثناكم عن جملة مقاطع منه ونواصل تقديمنا لمقطع جديد وهو: (الهي كيف تطرد مسكيناً التجأ اليك). الى ان يقول (ام كيف ترد ظمآن ورد الى حياضك شارباً، كلا وحياضك مترعة في ضنك المحول)... هذه الفقرة او العبارات الاستعارية التي يحفل بها الدعاء تجسدت كما المحنا في لقاء سابق انتخاباً لأهم دافع بشري هو الحاجة الى الشراب حيث تتوقف حياة الانسان عليه لذلك فان الدعاء حينما يربط بين التوسل بالله تعالى لغفران الذنب وبين الاستعارات التي تتحدث عن الظمأ والحياض ونحو ذلك، انما تنتخب استعارات متجانسة مع الموقف فكما الحاجة الى الماء بالنسبة الى الشارب ملحة كذلك الحاجة الى غفران الذنب بالنسبة الى العبد المذنب بمعنى ان العبد اذا لم يغفر له فانه سيهلك تماماً كما ان الظمآن لو لم يسمح له بشرب الماء فانه سيهلك.
اذن: الاستعارة التي تتحدث عن الماء وحياضه وشربه كما سنوضح ذلك الآن، انما تفصح عن اهمية هذه الاستعارة من حيث صلتها بذنوب العبد، والتوسل بالله تعالى الى غفرانها ...
ندعوكم اولاً الى ملاحظة ان الاستعارة تتحدث عن الحياض أي احواض الماء ولا تتحدث عن الماء فحسب فتقول: (كيف ترد ظمآن ورد الى حياضك)، وهذا يفصح عن نكتة مهمة وهي ان عطاء الله تعالى ليس محدوداً بشربة ماء مثلاً بل بحياض، والحياض هي مجتمع الماء، حيث يفصح وجودها عن سعة عطاء الله تعالى كما هو واضح ... هذا اولاً. اما ثانياً: فان الاستعارة المذكورة تشير الى ان هذه الحياض مترعة أي ملأى وهذا بدوره افصاح عن كثرة المياه وليس محدوديتها أي كثرة عطاء الله تعالى وليس محدوديته.
واما ثالثاً: فهناك نكتة في غاية الاهمية هي: ان هذه الحياض المترعة بالماء قد اقترن وجودها مع جرب الشيء أي ان الارض مثلاً اذا كانتا مجربة فان الحاجة الى الماء تظل اشد من الحاجة بالنسبة الى الارض الخصبة ... وهذا يعني ان الدعاء يستهدف الاشارة الى شدة الازمة النفسية التي يعاني منها العبد المذنب .. فكيف ذلك؟
لنلاحظ: ان الاستعارة تقول: (حياضك مترعة في ضنك المحول)، أي ان العبد المذنب الغارق في ذنبه او المعاني لشدائد جمة انما يتطلع الى عطاء لا حد له فمثلاً في كثرة ما ينظر اليه من مصادر اشباعه لحاجته وهي غفران الذنب، وبتعبير بديل ان الاستعارة التي تقول (الحياض مترعة في ضنك المحول)، انما تعبر عن اشد الحاجة لدى العبد الى الغفران للذنب، فالضنك معناه الضيق وشدة الازمة النفسية التي عاني منها العبد، واما المحول فمعناه ان نفسه بلغت من شدة الازمة الى درجة الصفر حيث محلت النفس واجربت من كل خير الا في حالة ما اذا انقذها الله تعالى بغفران الذنب.
اذن: لنلاحظ مدى الشدة النفسية وحجمها لدى العبد المذنب بحيث ان نفسه اجربت من الحر، ثم انه بسبب من الجرب المذكور يحيا في ازمة حادة لا فكاك منها، لان الضنك هو رمز لاشد ما يمكن تصوره والمحول رمز لانعدام الامل او الخير او الحاجة الى سقي مكتف من الماء وهو ما يتمثل في الأمل الكبير الذي يعلقه صاحب الذنب على غفران الله تعالى لذنبه ...
اذن: امكننا ان نستخلص من الاستعارات الواضحة المألوفة المتصلة بالماء وشربه ومحاله، ومن ثم رمزيته لعطاء الله تعالى وتوسل العبد به على صيغة التساؤل كيف ترد ظمآن ورد الى حياضك؟ ... ونفي العبد تماماً لاستحالة ذلك بعبارة كلا، اولئك جميعاً تفصح عن دقة العبارة ونكاتها الدلالية المتنوعة بالنحو الذي اوضحناه بين ان الاهم من ذلك كله هو ان نستثمر نحن القراء للدعاء هذا السياق وذلك بالعزم على ترك الذنوب وتدريب ذواتنا على الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******