نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها: دعاء الامام المهدي (عليه السلام)، الخاص بقراءته يوم عاشوراء حيث حدثناك عن مقاطع متنوعة منه وانتهينا الى مقطع جديد بدأ على النحو الآتي: (اللهم ان الغني من استغنى بك وافتقر اليك، والفقير من استغنى بخلقك عنك، فصلّ على محمد وآل محمد، واغنني عن خلقك بك، واجعلني ممن لا يبسط كفاً الاّ اليك، ...).
انّ هذه الفقرات تتصل بظاهرة في غاية الأهمية من حيث التعامل مع الله تعالى والاستغناء عن الخلق، صحيح ان النصوص الشرعية تطالبنا بألا ندعوا الله تعالى بأن يغنينا عن خلقه بل عن شرار خلقه لاّن الناس لابّد من تعاون بعضهم مع الآخر ولكن النصوص الشرعية تقرر في الآن ذاته بأن التعامل من حيث المبدأ ينبغي ان يتم مع الله تعالى فحسب واما الآخرون فهم مجرد أدوات يسِّخرهم الله تعالى لخدمة هذا الفرد او ذاك، وفي ضوء هذه الحقيقة يتقدم المقطع من الدعاء الحالي، بتناول هذه الظاهرة، اي: التعامل مع الله تعالى والاستغناء عن الخلق، والآن الى مقطع الدعاء المذكور.
يقول الدعاء: (اللهم ان الغني من استغنى بك وافتقر اليك)، ترى ماذا نستلهم من النص؟
واضح ان النص يقررّ بان الغنى (وهو الاشباع لحاجات الانسان في مختلف انماطها الدنيوية والاخروية) يظل بيد الله تعالى لاسواه وهذا من الوضوح بمكان، فما دامت فاعلية الوجود بأكملها من الله تعالى حينئذ لا فاعلية للمخلوق الا بمقدار ما زودّه تعالى به من الطاقات التي يتوكأ عليها في إنجاز حاجاته، من هنا قال النص: (ان الغني من استغنى بك)، حيث لاغناء الاّ منه تعالى، لذلك فان الله تعالى إذا اراد تحقيق انجاز ما أوعدم تحققه فان الأثر يظل بيده فحسب، فيما لا يملك الانسان لنفسه نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ولامَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً.
ماذا تتضمن العبارة القائلة بان الغني هو من (افتقر اليك)، بعد قوله (عليه السلام): (الغني من استغنى بك)؟
اي ان العبارة المشيرة الى ان الغني من استغنى بالله تعالى، تكفي في تقرير الحقيقة القائلة بأن الغنى هو من الله تعالى لاسواه، وحينئذ ما هي النكات الدلالية التي تضيف الى ذلك عبارة: (ان الغني من افتقر اليك)؟
الجواب: هنا تكمن بلاغة الحديث وعمق الدلالة التي يتضمنها، فمن الممكن ان يتصور القاصر معرفياً بأن الغني هو من استغنىبالله تعالى فعلاً، ولكن قد يستغني بسواه ايضاً، وهذا ما ينفيه النص بعبارة: (افتقر اليك)، ان الحاجة ينحصر قضاؤها أو انجازها من خلاله تعالى فحسب لأنا نفتقر اليه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، ان (الفقير) بدوره، لا يمكن ان يعتمد غير الله تعالى في اشباع حاجاته على نحو مستمر، ولا يمكن ان يستقل الاشباع الآني من الآخر مثلاً الا من خلال ادراكنا بأن الله تعالى هو الذي سخّر الاخرين بانجاز حاجات المحتاج، تأكيداً على ما تقدم، يتجه الدعاء الى تعقيب جديد هو: (والفقير من استغنى بخلقك عنك)، ان هذه العبارة تلخص لنا بعمق ما اوضحناه قبل قليل بأن الاشباع للحاجات منحصر بالله تعالى وان التوجه الى غير الله تعالى لا يحقق الاشباع المطلوب، اي: في حالة ما اذا خيل للعبد بأنه بمقدوره ان يستعين بالمخلوق دون الخالق في انجاز حاجاته، فأنه مخطئٌ دون ادنى شك وسيظل (فقيراً) في حالة تصوره بأنه قد حقق اشباعه بواسطة المخلوق.
اذا كان الامر كذلك، فبم نفسِّر تحقيق الاشباع عند من ينعزل عن الله تعالى؟
الجواب: ان هذه الظاهرة لها جانبان، نحدثك عنهما الآن بشييء من التوضيح.
الجانب الاول هو: ان الله تعالى هو الذي يتدخل في تكييف الامور، ولكن الناس غافلون عن ذلك فقد يتصور الشخص مثلاً بأنه اذا استعان بصديق له علي تحقيق الاشباع (مثل سعة رزقه) فانه يخطئ، كيف ذلك؟
ان الله تعالى هو المتكفل بسعة رزق ذلك العبد الذي خُيِّلَ اليه ان صديقه هوالذي تسببّ في سعة رزقه من خلال اقراضه رأسمالٍ، مثلاً ولكن الحقيقه هي: ان الله تعالى اراد سعة رزق ذلك الشخص فهيّأ له من يقرضه، من هنا ورد نص شرعي يقول ما معناه ان الله تعالى وسع في رزق الحمقى ليتعظ بذلك من يخيل اليه انه ببراعته او مساعدة غيره من الناس: اتسع رزقه.
اخيراً نواجه هذا التعقيب الجديد في مقطع الدعاء وهو: (فصل على محمد وآل محمد واغنني عن خلقك بك واجعلني ممن لا يبسط كفاً الا اليك)، هذا التعقيب محتاج الى مزيد من التفصيل سنحدثك عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى.
ختاماً نسأله تعالى ان يجعلنا ممن يستغني به ويفتقر اليه سائلين الله تعالى ايضاً ان يوفقنا الى ممارسة الطاعه والتصاعد بها الي النحو المطلوب.