بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأسمى الصّلاة وأجلّ السّلام على خير خلق الله أجمعين، محمّد وآله الطاهرين المعصومين.
أعزّتنا المؤمنين الأكارم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في جمع من مصادر علماء السّنة، كالمستدرك للحاكم، ونور الأبصار للشبلنجيّ، وكنز العمّال للهنديّ، والصواعق المحرقة لابن حجر، ومجمع الزوائد للهيثميّ... وغيرها، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في مرض وفاته: "أيّها الناس، يوشك أن أقبض سريعاً فينطلق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلّف فيكم كتاب ربّي عزوجل وعترتي أهل بيتي". ثم أخذ صلّى الله عليه وآله بيد عليّ فرفعها وقال: "هذا عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما".
وقد فهمت العبارات الأخيرة- أيّها الإخوة الأفاضل- بأفهام عديدة، وإن كان الكثير منها لا يتعارض ولا يختلف مع بعضه البعض، فقد قيل بأنّ معيّة عليّ (عليه السلام) للقرآن إمّا أنّه متحمّل لكتاب الله تعالى حقّ التحمّل، وعارف به حقّ المعرفة- وذلك وجهٌ وجيهٌ في بيان الحديث النبويّ الشريف- وإمّا أنّ علياً سلام الله عليه هو المدافع عن القرآن والواقف معه والناصر له- وتلك حقيقة يشهد بها الجميع أنه (عليه السلام) كان حامي القرآن بقوله وبيانه واحتجاجه، وبسيفه وجهاده على تنزيله، وعلى تأويله- وإمّا أنّ الامام علياً عليه السلام كان مع القرآن في مسير الهداية، يشتركان في أداء الأهداف الإلهيّة من خلافتهما عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، فالقرآن شرّع وعليّ نفذ، والقرآن طريق رشاد، وعليّ هو خير هاد... وقد روى الحاكم النيسابوريّ الشافعيّ في مستدركه، والفخر الرازيّ في تفسيره، والسيوطيّ الشافعيّ في (الدرّ المنثور)، والمناويّ في (كنوز الحقائق)... وغيرهم، عن ابن عبّاس، لمّا نزل قوله تعالى: "إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" ( سوره الرعد:الاية السابعة)
وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده المباركة على صدره فقال: "أنا المنذر".
ثمّ أومأ إلى منكب علي (عليه السلام) فقال: "أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون من بعدي".
ولعلّ هنالك فهماً اخر –أيها الإخوة الأحبة- لمعيّة عليّ للقرآن، ومعيّة القرآن الكريم لعليّ (عليه السلام)، هو أنّه (عليه السلام) كان أحرص الناس مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترقباً وانتظاراً ومسايرة للوحي الشريف، وأكثرهم متابعة وإعمالاً في حياته الإيمانية المباركة، كذلك كان القرآن معه في مراقبته وبيان فضائله ومناقبه ومواقفه الإيمانيّة العظيمة، من ذلك مبيته (عليه السلام) في فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قرّر المشركون اغتياله عند منامه، ليلة الهجرة لرسول الله، وليلة المبيت لوصيّه عليّ وليّ الله، فنزل الوحي الأمين بقول الحق سبحانه وتعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (سورة البقرة: الاية السابعة بعد المئتين)
وقد أجمع أهل التفسير وأهل الحديث، وكذا أصحاب السّير والتاريخ أنّ الآية نازلة في الإمام عليّ (عليه السلام)، مروياً ذلك على ألسنة مشاهير الصحابة، ومثبتاً ذلك بالتواتر والتسالم في عيون كتب المسلمين وموثوقاتها.
قال ابن عباس- كما يروي الحبريّ في تفسيره-: في عليّ (عليه السلام) أي نزلت الآية لما انطلق النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الغار، فأنامه في مكانه ، وألبسه برده، فجاءت قريش تريد قتل النبيّ، فجعلوا يرمون عليّاً وهم يرون أنه النبيّ، فجعل يتضوّر، ورواه ابن مردويه، وابن الأثير في (الإنصاف) قائلاً بأنّ الآية نزلت في عليّ (عليه السلام)، وذلك حين هاجر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وترك عليّاً في بيته بمكّة. كذلك رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عمر بن ميمون حيث قال: وشرى عليّ نفسه ابتغاء مرضاة الله، لبس ثوب رسول الله ثمّ نام مكانه. والثعلبيّ رواه في تفسيره بإسناده عن السدّيّ عن ابن عباس، وابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب) عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وابن بطريق في (العمدة)، ونظام الدين النيسابوريّ في (غرائب القرآن ورغائب الفرقان)، وابن المغازلي الشافعيّ في (مناقب عليّ بن أبي طالب)، وقيل في تفسير الآية الكريمة: معنى (يشري نفسه) أي يبيعها، والمشتري هو الله جلّ وعلا، ولعلّ في الآية إشارة الى قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ" ( التوبة: الاية المئة والحادي عشرة)
فعليّ كان البائع والله كان المشتري، وعليّ كان الفادي، ورسول الله كان المفدّى. فمن كأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) أولى بثناء الله تعالى ورأفته وهو الرؤوف بالعباد، ومن أولى بخلافة رسول الله ووصايته وهو صلّى الله عليه وآله خير العباد؟!
وتتزاحم المصادر –أيّها الإخوة الأعزة- في فضائل الإمام عليّ (عليه السلام)، لا سيمّا في ظلّ الآيات النازلة فيه، ومنها آية الشراء قوله تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ"، فيكون منها: فرائد السمطين للجوينيّ الشافعيّ، وينابيع المودّة للقندوزي الحنفيّ، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ، وتاريخ دمشق لابن عساكر الشافعيّ، وأسد الغابة لابن الأثير، والمناقب للخوارزميّ الحنفيّ، وإحياء علوم الدين للغزاليّ الشافعيّ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ.. وعشرات المصادر عن عشرات الروايات وطرقها ورواتها، يوقفنا ذلك على أمرين: الأوّل الإجماع على سبب نزول الآية في منقبة عظمى من مناقب عليّ (عليه السلام) وقد عرّض نفسه الزاكية للقتل من أجل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والثاني- الاستدلال بالآية وبالرواية، على إمامة علي عليه السلام، لأفضليته كما يرى العلامة الحليّ ذلك في كتابيه: (كشف الحقّ ونهج الصّدق)، وكتاب (منهاج الكرامة).
والى لقاء طيب آخر معكم –ايها الاخوة الاحبة- نستودعكم الله تعالى، ونرجو لكم أهنا الساعات، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******