البث المباشر

الحالات التي تجوز فيها الغيبة!

السبت 10 يونيو 2023 - 18:45 بتوقيت طهران
الحالات التي تجوز فيها الغيبة!

في الحالات الاستثنائيَّة لتحريم الغيبة، ذكر الفقهاء بعضاً منها في كتبهم الفقهيَّة، وأفتوا بحلّيتها انطلاقاً من الأدلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُنَّة وهي كالتالي:

1 ـــ المتجاهر بالفسق، وهو الَّذي يرتكب المعاصي جهاراً دون أن يحاول التستُّر فيها، فلا حرج علينا في غيبته، لأنَّ تجاهره بالتمرُّد على الله يفقده حقَّه في احترام حياته ما دام لم يحترم ربَّه.

وقد جاء في الحديث الشَّريف عن الإمام الصَّادق (ع) قال: "إذا جاهر الفاسق بفسقه، فلا حرمة له ولا غيبة" .

وربّما يرى البعض خروج هذه الحالة عن الغيبة أساساً، لأنّها تمثِّل ذكر العيب المستور، والتَّجاهر يتنافى مع الستر.
 

2 ـــ الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته، وذلك، لقوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً}[النّساء: 148].

وقد نجد في بعض النّصوص الدينيَّة اعتبار إساءة ضيافة الضَّيف ظلماً له ومبرِّراً للتحدّث عنه. فقد جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصَّادق (ع) حول الآية المتقدّمة، قال: "من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم، فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه" .

ولعلَّ السَّبب في ذلك هو أنَّنا لو منعنا المظلوم من التحدُّث عن ظلمه، لأغلقنا عليه باب الانتصار لنفسه، أو الأخذ بحقِّه من ظالمه، وفي ذلك حرجٌ كبير عليه من جهة، وظلمٌ له من جهةٍ أخرى.

ثمّ إنَّ السلبيَّة في هذا الجانب تقتضينا احترام الظَّالم في ظلمه وتشجيعه عليه، وهذا مناف لسماحة الإسلام وعدله وانطلاقه في إثارة الحرب ضدّ الظّلم والظّالمين.

وقد جاءت الآية الكريمة التي توضح هذا المعنى ـــ إضافةً إلى الآية السابقة ـــ : {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى: 41 ـــ 42].

3 ـــ نصح المؤمن، فتجوز الغيبة بقصد النّصح فيها إذا توقّفت النَّصيحة عليها، كما إذا استشار إنسان إنساناً في تزويج امرأة أو في شراكة شخص، أو الارتباط به في أيّ جانب من جوانب الارتباط، ولم يكن للمستشير مصلحة في ذلك، لنقص في المرأة يعقّد له حياته، أو عيب في الشَّريك يفسد ماله، أو مفسدة في هذا الارتباط أو ذاك، فإنّنا ـــ في هذه الحالة ـــ نستطيع التحدّث عن ذلك ـــ لو لم يكن هناك مجال آخر ـــ وإنْ لزم منه إظهار عيوب هؤلاء، بل لا يبعد جواز ذلك ـــ في نظر بعض الفقهاء ـــ ابتداءً بدون طلب أو استشارة، إذا علمنا بترتّب مفسدة كبيرة على ترك النَّصيحة.

ولعلَّ الأساس في هذه الفتوى هو الأخبار الكثيرة التي تدلّ على لزوم النَّصيحة للمؤمن...

4 ـــ إذا قصد المتحدِّث بالغيبة ردع المغتاب عن المنكر فيما إذا لم يمكن الرَّدع بغير ذلك. فإذا علمنا أنَّ شخصاً يشرب الخمر أو يسرق النَّاس مثلاً، وكان متستِّراً في ذلك، ولم نستطع ردعه عن الجريمة أو المعصية إلَّا بالتشهير به والتحدُّث عنه بذلك أمام النَّاس، لأنَّ ذلك يشقّ عليه، فيتركه ليستردّ كرامته ويحفظ نفسه، فيجوز اغتيابه، بل قد يجب، لما دلّ على وجوب النَّهي عن المنكر بأيّ أسلوبٍ من الأساليب الممكنة.

5 ـــ إذا خيفَ على الدِّين أو الوطن من الشَّخص المغتاب، فيجوز غيبته دفعاً لهذا الضَّرر، وذلك في الحالات الَّتي نعلم فيها بإنسانٍ يتجسَّس لمصلحة العدوّ، أو يدعو إلى أفكارٍ مبتدعة، أو نحو ذلك ممّا يضرّ بالدين أو الوطن، فإنّه يجوز لنا أن نعمد إلى كلّ أساليب التشهير التي تفقدهم الثّقة والاحترام لدى النَّاس، فيبطل بذلك أثرهم في الحياة الاجتماعيَّة.

أمَّا الأساس في هذا الحكم الشَّرعيّ، فهو أهميَّة دفع الضَّرر عن الدّين أو الوطن، من الإضرار بسمعة إنسانٍ مبتدع، أو جاسوس وفضحه بين النَّاس.. وهذه قاعدة عامَّة يذكرها علماء الأصول، وهي أنَّ كلَّ حالة من الحالات الَّتي يتزاحم فيها حكمان متنافيان لا يقدر المكلَّف على امتثالهما معاً، فيرجَّح ما كانت المصلحة فيه أهمّ في الواجبات، أو ما كانت المفسدة فيه أعظم في المحرَّمات.

وقد نستفيد ذلك من الحديث النبويّ الذي نقله الإمام جعفر الصَّادق (ع): "قال رسول الله (ص): إذا رأيتم أهل الرّيب والبدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا (أو يطغوا) في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلَّموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدَّرجات في الآخرة" .

6 ـــ إذا كان هناك خوف على حياة الشخص الَّذي تغتابه، أو كان هناك ضرر كبير لا تستطيع دفعه عنه إلَّا بالتشهير به، فإنّه يجوز لنا اغتيابه، حفظاً لنفسه، فإنَّ مصلحة حفظ النَّفس أعظم من مفسدة الغيبة.

7 ـــ جرح الشّهود، فإذا كانت هناك دعوى قضائيَّة، وجاء المدَّعي بشهود فاسقين لا يعرف فسقهم، فيجوز لمن يعرف ذلك عنهم أن يذكر ذلك عنهم، لئلَّا يقضي الحاكم بشهادتهم، "فإنَّ الإجماع دلّ على جوازه، ولأنَّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفسَّاق، أولى من الستر على الفاسق ومثله، بل أولى بالجواز جرح الرّواة، فإنَّ مفسدة العمل برواية الفاسق، أعظم من مفسدة شهادته، ويلحق بذلك الشَّهادة بالزّنا وغيره لإقامة الحدود".

8 ـــ ردّ من ادّعى نسباً ليس له، فإنَّ مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة حرمة المغتاب.

9 ـــ نقد آراء الآخرين، وإن استلزم ذلك نقصاً في أصحابها، كسوء الفهم وغيره، إذا توقّف حفظ الحقّ وإضاعة الباطل عليه .

ويحاول الشيخ مرتضى الأنصاري ـــ أحد العلماء الكبار في الفقه والأصول ـــ أن يعفينا من تعداد الحالات الاستثنائيَّة، فيرسم لنا القاعدة الكليّة التي يلزمنا مراعاتها في كلِّ حالة، لنعرف مورد الحلال من الحرام، فيقول ـــ في كتاب "المكاسب المحرَّمة":

"إنَّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة وغيرها، أنّ حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن أو تأذّيه منه، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب دلَّ العقل والشَّرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب، كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين، كما هو الحال في كلّ معصية من حقوق الله وحقوق الناس".

ولهذا، فإنَّ "الضابط في الرخصة وجود مصلحة غالبة على مفسدة هتك احترام المؤمن، وهذا يختلف باختلاف تلك المصالح، ومراتب مفسدة هتك المؤمن، فإنّها متدرّجة في القوَّة والضّعف، فربَّ مؤمنٍ لا يساوي عرضه شيئاً من المصالح فالواجب التحرّي في الترجيح بين المصلحة والمفسدة" .

وهكذا نعرف مرونة الإسلام في التشريع، فإذا كان التَّشريع منطلقاً من مصلحة الإنسان في الحياة، فلا بدَّ أن تلاحق الشَّريعة المصلحة أينما كانت، فلا تتجمَّد أمام حالة من الحالات، بل تنطلق في حياة الإنسان خيراً وسلاماً وبركةً، من أجل أن يعيش الإنسان حياته في راحة وطمأنينة وكرامة بين يدي الله في الدُّنيا قبل الآخرة.
 

* من كتاب "مفاهيم إسلاميَّة عامَّة".

السيد محمد حسين فضل الله


---------------------------
بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي، ج85، ص 35.

بحار الأنوار، ج72، ص 258.

بحار الأنوار، ج 71، ص 202.

المكاسب، الشّيخ مرتضى الأنصاري، ص 357.

المكاسب، ص 358.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة