ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ النَّقْلِ كِذْبُ الرِّوايَةِ".
إن علاقتنا مع النُّقول والأخبار والروايات ليست عابرة ولا محدودة بظرف خاص ولا بموضوع خاص، بل تتسع لتشمل مساحة واسعة من حياتنا، في بعدها الديني، والفكري، والسياسي والاجتماعي وسوى ذلك من الأبعاد، ففي المجال الديني العقدي نتعامل مع كَمٍّ كبير من الروايات والأخبار، صحيح أن العقيدة لا تقليد فيها إذ يجب أن تكون ناتجة عن تفكير طويل وتأمُّلٍ عميق، وأن تكون يقينية دلَّت عليها البراهين، وهذا واجب فردي عَينِيُّ، ولكن هناك الكثير من المفردات العَقدية نحتاج في فهمها إلى الاستعانة بالقرآن والروايات الصادرة عن المعصومين(ع).
وإذا تجاوزنا الأمور العَقَدية إلى الشريعة التي تُحَدِّد تكاليفنا اليومية فجميعها قائم على الأخبار والروايات، وهكذا الشأن في القضايا التاريخية.
هنا في هذه الساحة نحن أمام كَمٍّ عظيم من الروايات والأخبار التي لا يجوز أن نتلقاها كيفما كان، بل لا بد من تصنيفها وتمحيصها وتمييز الصحيح عن المُختَلَق والتَّثَبُّت من صدقها، والثابت صدوره عن أئمة الدين من المشكوك فيه، والتعمُّق في دلالاتها، وعرضها على المقاصد الكبرى للدين، ورؤية مدى انسجامها أو عدم انسجامها معها، لأن ديننا كله قائم على الأخذ بها أو ردِّها، والفرق بَيِّنٌ بين أن نُقيم ديننا على الصحيح من الروايات، أو نُقيمه على المشكوك في صحته أو غير الصحيح، وإنه لَمِن أشدّ الظلم للنفس أن يُقيم الإنسان دينه على ما يصح وما لم يصح، وإن من يحترم ذاته وعقله لا يؤمن إلا بما أثبتته البراهين ودلَّت عليه النصوص الصحيحة.
ولا يختلف عالمان من علماء الإسلام، فضلاً عن غير المسلمين في أن الناس قد كذبوا على الأنبياء فاختلقوا الأحاديث ونسبوها إليهم، وألصقوا بالدين ما ليس منه، وابتدعوا الكثير من المعتقدات والأحكام الشرعية والقضايا التاريخية، ولم يحصل ذلك بعد فترة طويلة من ارتحالهم إلى الله بل حدث في حياتهم، حتى اشتكى رسول الله (ص) من ذلك.
فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ (ص) عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ اَلْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ اَلنَّارِ ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ"، فكم من أحاديث اختلقها الكذّابون والوَضَّاعون ودَسُّوها في كُتُبِ المسلمين ولا زالت إلى يومنا تتردَّد على أَلسِنَة البعض منهم وهم لا يدرون أنها مكذوبة، واليوم تنتشر الكثير من الأحاديث في وسائل التواصل وتُنْسَبُ إلى النبي والأئمة رغم ركاكتها وضعفها، ويسارع الناس في نشرها دون تثبت من صحتها.
وإذا تجاوزنا هذه الساحة إلى الساحات الأخرى، فحدِّث قارئي الكريم ولا حرج، فلا تمضي دقيقة اليوم إلا وتنهمر علينا الأخبار والروايات انهماراً، تأتينا دون أن نطلبها، وتدخل علينا دون استئذان، تبُثُّها مئات القنوات الفضائية والمنَصَّات الاجتماعية، ومعظمها أخبار تفتقد إلى الصدقية، وفيها الكثير الكثير من الأخبار المُختَلَقَة والمُجتزأة، حتى ليمكننا الادعاء أن النسبة العظمى مِمّا يصلنا يكون مجتزءاً من سياقه، والاجتزاء يُخِلُّ بالمعنى، ونسبة كبيرة مُختلَقة لا أساس لها، وأخرى يُشابُ فيها الحق بالباطل، والصحيح بالمكذوب.
إن الكذب شائع اليوم في معظم وسائل الإعلام إلا ما رحم الله، ويُعتَمَدُ كاستراتيجية إعلامية تحقِّق الكثير من الأهداف، إذ يزوِّر الحقائق، ويقلب الواقع، ويأخذ عامَّة الناس على غفلة منهم، والكذب لا يقتصر على المجال السياسي بل يطال حتى المجال الديني، وبأسف أقول: أن عدداً من القنوات التلفزيونية الدينية كانت لا ترعوي عن بَثِّ الأكاذيب، واختلاق الأحاديث، واجتزاء الكلام لتحميله ما لا يحتمل، ولا زالت إلى الآن تعمل على ذلك دون حياء ولا خوف من التبعات الأخلاقية والشرعية.
ومن الأساليب التي يلجأ إليها الإعلام اليوم، وأكاد أجزم أنه لا يسلم من ذلك موقع ولا قناة، إنهم يذكرون بعض الحقيقة ويُخفون بعضها الآخر، وهذا من أخطر أنواع الكذب لصعوبة كشفه وسهولة التدليس فيه، وبعضهم قد يذكر الحقيقة ولكنه يتوسع في تحوير معناها، وهناك الكثير ممن يعتمدون استراتيجية بثِّ الشائعات ونشر الأراجيف، لإحداث قلاقل واضطرابات فكرية ونفسية وسياسية واجتماعية.
وعليه: لا بد من تمحيص الأخبار، والتثبُّت من صحتها، والتأكد من مطابقتها للواقع، ولا يجوز عقلاً وشرعاً التُسَرُّع في قبولها وتبنيها، سواء كانت أخباراً في الساحة الدينية البحتة، أم كانت في الساحة الاجتماعية والسياسية.
----------------------------
السيد بلال وهبي - الباحث في الدراسات القرآنية