ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ ـ عليه السلام ـ أنه قال: "الإِعْذارُ يُوجِبُ الاعْتِذارَ".
الإعذار: ذِكرُ العُذر، وهو يوجب الاعتذار أي قَبول العذر، فلو أنَّ شخصاً بدرَ منه إساءة، أو خطأ، أو تقصير تجاه شخص آخر، ثم جاءه معتذراً وذكر له عُذره، فيجب على الطرف الآخر أن يقبل اعتذاره، فيصفح عنه ويتجاوز عن خطئه، ويغفر إساءته، هذا ما توجبه شريعة الأخلاق والإحسان، وليس له أن يرد اعتذاره، أو أن يتهمه بالكذب، أو يتحقق من أعذاره.
إن من القِيَم الأخلاقية الجليلة أن يعتذر المسيء والخاطئ إلى من أساء إليه وأخطأ معه، والاعتذار ليس مَنقصة، ولا عَيباً، ولا تنازلاً، ولا ضَعفاً، إنما هو خُلُق كريم، وفضيلة راقية، ودليل على تمتُّع المُعتذر بثقة عالية بنفسه، وبرهان على نقاء سريرته، ويقظة ضميره.
الاعتذار هو الموقف الذي يقوم به الشخص للتعبير عن ندمه على ما قال وفعل، ورغبته في التَّخَفُّفِ من ثِقلِ ما صدر منه، ورغبته ثانياً في التخلُّص من سلبيات فعله، والرجوع إلى الحقِّ والصواب، والتوبة إلى الله مما كان منه، ورغبته ثالثاً في الإبقاء على علاقته بالشخص الذي يعتذر إليه، والأمل يحدوه في أن يسامحه ويصفح عنه.
وإن من القيم الأخلاقية السامية أن يقبل الطرف الآخر اعتذار من أساء إليه أو أخطأ معه، ولا يفعل ذلك إلا ذو صدر رحْبٍ، وقلب سليم، وذات شريفة، وحِلمٍ عظيم، وعفو ورأفة، ووعيٍ وحِكمة.
وقد حَثَّ الإسلام على قبول الاعتذار من المُعتذر، وأكَّد عليه في الكثير من النصوص الشريفة، لِما فيه من قيمة أخلاقية رفيعة، ولِما يترتب عليه من إعادة وصل ما انقطع بين الطرفين، وتوطيد العلاقة بينهما، وما فيه من إشاعة الوِئام والمحبة بين الأفراد، وما فيه من دعوة لتبرئة الذمة من حقوق الآخرين المعنوية، وطلب الغفران منهم، وما فيه من تعويد الناس على العفو والصفح، وإشاعة فضيلة التسامح، وتبديل العداوة والبغضاء بالمحبة والمودة، والتزام بخلق كريم دعا الله المؤمنين إليه بقوله: "...وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"*﴿237/ البقرة﴾.
وجاء في الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال: "مَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنصِّلاً فَلْيَقبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ، مُحِقّاً كانَ أَوْ مُبْطِلاً، فَإنْ لَمْ يَفعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الحَوضَ"*. وهذا مصير بائسٌ يأباه المؤمن الصادق، والحُرُّ الكريم.
وجاء عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: "احْمِلْ نَفسَكَ مِنْ أَخيكَ عِندَ صَرمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وعِندَ صُدودِهِ عَلَى اللُّطفِ والمُقارَبَةِ ... وعِندَ جُرمِهِ عَلَى العُذرِ، حتّى كَأنَّكَ لَهُ عَبدٌ، وكأنَّهُ ذو نِعمَةٍ عَلَيكَ"*. وهذه والله من أجَلِّ الوصايا، فالذي يقبل عُذرَ المُعتذر مأجور، ومثاب، وفعله ممدوح، والإمام هنا يوجه ابنه إلى أدب قبول العذر، فلا يقبله وهو ساخط غاضب على المُعتَذر، ولا يقبله باستعلاء واستكبار، بل يقبله بلطف وحُنُوٍّ، بل يشكره على اعتذاره، حتى كأنه ذو نِعمةٍ عليه، فإن ذلك يُربي المعتذر على الاعتذار إن هو أخطأ مرة أخرى معه أو مع غيره، بل يضعه على طريق الصلاح والحق.
بل يحثُّ الإسلام على قبول العذر حتى من الكاذب، فقد يوقظ ذلك ضميره، فيلوم نفسه على ما صدر منه من إساءة ومن كَذب، فقد جاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام : "لا يَعتَذِرُ إلَيكَ أحَدٌ إلّا قَبِلتَ عُذرَهُ، وإن عَلِمتَ أنَّهُ كاذِبٌ"*.
فضلا عن ضرورة قَبول العُذر، فإن الإسلام يذهب أبعد من ذلك، إنه يدعو المسلم إلى أن يلتمس لأخيه العذر وإن لم يعتذر إليه، أي يُحسِنُ الظَّنَّ به فلعله معذور فيما صدر منه، فقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "اِقبَلْ عُذرَ أَخِيكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذرٌ فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً"*.
بقلم باحث الدراسات القرآنية بلال وهبي