وهو يمثّل الحركة الداخليَّة في العقل والقلب، والحركة الإيجابيَّة في الواقع العملي، بتقديم كلّ المشاعر الطيّبة، والالتزامات الخيّرة، وإظهار التعظيم والتوقير والحمد والتمجيد والإعزاز للمنعم، وذلك باللّسان بالتعبير عن كلّ مشاعر الامتنان والمحبَّة تجاهه، وبالأعضاء الأخرى بالعبادة والطاعة، واجتناب كلّ ما يعبّر عن التمرّد والمعصية والبعد عن مواقع المحبّة والخضوع.
إنَّ الشكر يمثِّل القيمة الأخلاقيَّة التي تعبّر عن انفعال الإنسان بما يقدِّمه المنعم له بطريقةٍ إيجابيَّة، الأمر الذي يؤدّي إلى تشجيع العاملين في سبيل الخير على مستوى الواقع الإنساني، كما يوحى بإنسانيَّة الإنسان في استجابته الروحيَّة لكلّ نقاط الخير في معنى وجوده وحركة حياته، بالإحساس بحاجته إلى تقديم حالٍ من الانحناء القلبي والتعبيري والعملي في سبيل الاعتراف بالجميل الذي يقدَّم إليه من الخالق أو المخلوق، إذ إنَّ الله أراد للإنسان أن يشكر المخلوق كما يشكر الخالق، لأنَّ ذلك يوحي بالعمق الروحي للإنسان.
واتّباع السنن الّذي يمثل النهج الشرعي الذي سنّه الله ورسوله للإنسان في كلّ مجالات حياته الخاصّة والعامّة، مما أوجبه الله أو استحبَّه، أو ألزم بتركه أو كره فعله، وقد تطلق شرعاً على الأحاديث المروية عن النبيّ (ص) وعلى الطريقة النبوية، وهي ما سنّه النبيّ (ص)، أي ما شرّعه من مفروضٍ أو مندوبٍ وغير ذلك.
والظاهر أنّ المقصود بها هو ما ذكرناه من الالتزام بالشَّريعة الإسلاميَّة جملةً وتفصيلاً، باعتبار ذلك مظهراً للانتماء إلى الإسلام، لأنَّ الالتزام العملي هو معنى إسلام الفكر والقلب واللّسان والجسد لله ولرسوله في كلّ مجالات الحياة.
ومجانبة البدع، وهي الَّتي تمثّل في عنوانها الكبير الخطَّ المنحرف عن الإسلام، أو الخطّ الذي لم يشرِّعه الله، ولم يندرج تحت أيّ عنوان من العناوين العامَّة التي شرّعها الله، ولم يلتقِ بالمنهج العام للبرنامج الشرعيّ للإنسان في البرنامج الإسلامي العام.
وفي ضوء ذلك، قد تتحدَّد البدعة في التشريع بتشريع أحكام وقوانين مضادة للتشريع الإسلامي، أو بعيدة عن خطوطه مع نسبتها إليه، مما يستحدثه الناس من أحكام وتشريعات على أساس محاولة اعتبارها إسلامية، من حيث انسجامها مع الأجواء العامَّة للمفاهيم الإسلامية في استنتاج ذاتي، كما يحاول البعض العمل على تحريك الاستنباط للأحكام من قواعد لا تلتقي مع القواعد العامَّة لمصادر التشريع، انطلاقاً من التأثرات الثقافية ببعض الاتجاهات الفكرية أو القانونية التي تفرض على الواقع العامّ أحكاماً أو تشريعات معينَّة من خلال القوَّة التي يملكها أصحابها، ما يجعل منها، في الوجدان العام، أساساً للنظرة الحضارية أو التقدمية التي لا بدَّ للإسلام من أن يكون منسجماً معها في النظرة والحركة والمنهج.
وهذا ما أفسح المجال للاجتهادات التوفيقيَّة التي درج عليها بعض المفكرين المسلمين الذين عاشوا الانبهار بالأجواء الحضارية الغربية، أو بالأفكار القومية، أو الاشتراكية، فعملوا على إخضاع النصوص الإسلامية لمفاهيمها وقوانينها، بالطريقة التي لا يتحملها النص ولا يلتقي بها منهج الاجتهاد.
وقد تطرَّق البعض إلى الجانب الآخر من مفهوم البدعة، فحاول التحدث عن كلّ المستجدّات التي لم تكن موجودةً في زمن النبيّ (ص)، أو لم ينصّ عليها الكتاب والسنَّة من بعض الأعمال والأوضاع، باعتبار أنّها بدعة محرَّمة، من دون الالتفات إلى أنَّ العبرة في هذا الموضوع ليست بالنظر إلى مفردات المسائل، بل إلى كلياتها، فقد يأخذ المسلمون ببعض الأعمال والنشاطات غير المألوفة في زمن الشَّرع، ولكنّها تلتقي بالمفاهيم العامَّة التي تحدث بها الشارع، كالاحتفال بذكرى النبيّ محمَّد (ص) والأئمة والصحابة والعلماء، أو التظاهر السياسي للمطالبة ببعض القضايا العامَّة، أو للاحتجاج على بعض الأوضاع، أو الأخذ ببعض العادات التي لم تكن موجودةً في عهد التشريع مما لا يكون خاضعاً لعنوان محرَّم، وذلك من خلال الاستفادة من استعادة تاريخهم وسيرتهم، أو للأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، أو لإدخال السرور على المؤمنين في العادات الاجتماعيَّة، باعتبار أنَّ الله لم يحدِّد للإنسان وسائل تحقيق بعض العناوين أو المفاهيم أو التشريعات، بل ترك له ملاحقة المتغيرات الواقعية لتطوير أساليبها، وتنويع وسائلها، ما يجعل الأخذ بها أخذاً بالخطوط العامة، فيكون وجوبها أو استحبابها أو إباحتها تابعاً لاستحباب العناوين المنطبقة عليها انطباق الكليات على جزئياتها، لا باعتبار الحكم بشرعيَّتها بالخصوص في دائرتها الجزئيَّة، ليقال إنّها ليست منصوصةً، فلا يجوز نسبتها إلى الشارع.
*من كتاب "آفاق الرّوح"، ج1.
السيد محمد حسين فضل الله