في سياق الحديث عن النظرية المادية الغربية لابد من التفرقة بين رؤية العلم للاشياء ورؤية الفلسفة، وقد رأينا في لقاء سابق ان العلم كاشف عن الظواهر وترابطاتها المحايدة يقوم على المنهج الوصفي لكن المشتغلين بالفلسفة هم الذين اطغوا على العلم التجريبي سمة اكبر من طاقته وحولوه من المنهج الوصفي الى المنهج التقويمي فقالوا ان العلم لا يؤمن بغير المادة بل ينفي ماوراء المادة، وفي هذا تحميل للعلم فوق ما يتحمل لمنهجه واسلوبه وغايته في غير حق. ان العلم من خلال تجربته ومعامله ومقاييسه لم يتعرض للقول بمادتية الكون لكنه قال انه يجهل ماوراء الطبيعة ولم يتعرض ايضاً للقول بأن الحياة نشأت عن مصادقة وما كان له ان يقول مثل هذا وهو يرى دقة التركيب والتوقيت لكنه قال من واقع معامله وتجربته انه يجهل الجواب عن سؤال لماذا، ومن اين جاء، والى اين يتجه؟ وتلك هي حدود العلم.
ان الذين حاولوا ان يقتحموا الفراغ الذي وقف عنده العلم بحكم وظيفته المحدودة وادواته القاصرة انما هم الفلاسفة الماديون الذين قدسوا العلم والعقل واصروا على انه لا توجد وراءهما وسائل للمعرفة وانكروا وسيلة المعرفة الكبرى التي كانت منذ عرف الانسان وجوده على الارض وهي وسيلة الوحي والنبوة والرسالة وكتب الله ومنهج الله وآياته، ان الله سبحانه وتعالى قد قدم للبشرية منهجاً كاملاً لهذا الجانب الذي يسمى عالم الغيب والذي يطلق عليه اسم الميتافيزيق او ماوراء الطبيعة، قدمه للانسان من خلال كتبه ورسله، لتطمأن النفس الانسانية لهذه المعرفة عن الغيب فتتجه الى اكتشاف قوانين الطبيعة والمادة والافادة منها في بناء الحياة وعمران الكون واداء رسالة الانسان المستخلف في الارض.
الانسان الغربي حين ابعد تفسيرات الدين الحق ولم يكلف نفسه ان يبحث عن حقائق الغيب حاول ان يجتهد، اما العلم فقد توقف عند قدراته وادواته، واما الفلاسفة فقد اندفعوا لسد الثغرة بالعجز المتمثل بالقول بأن كل ما ليس تحت السمع والبصر فأنه غير موجود ومن ثم فأن الحكمة في ظنهم من وراء خلق الكون والانسان وانما هي المصادفة العمياء واذن فلا غائية ولا بعث ولا هدف من هذه الحياة البشرية على الارض، ومن حق الانسان والحالة هذه ان يسارع الى اقتناص متعه والاندفاع وراء رغباته فيها قبل ان يدركه الموت او يدركه تفجير الذرة والحرب المدمرة، من هنا كان المذهب المادي فلسفة لا علم وفرق بين العلم الموضوعي والفلسفة المنحازة.
في العقود الستة الاخيرة دخل العلم التجريبي طوراً جديداً من التشكيك دفع اقطابه الى ان يضعوا يقينياته السابقة في الميزان من جديد وتغيرت لهجة ممثليه، فأصبحوا يكثرون من قولهم ان الوجود مليء بالمجاهيل حتى فيما يدعى انه قد فرغ من بحثه، وقد استبان من اقوال العلماء الحسيين في هذا الصدر ان المذهب العلمي قد اثيرت حوله شبهات من اهله انفسهم وان فتوحات جديدة وصل اليها العلم في مجال المباحث النفسية والروحية وان عهداً جديداً بدأت تتجلى فيه حاجة العقل وجاجة الروح وفق اسلوب علمي صرف، وقد اعلن العلم ان الاصل الروحي ضروري لبناء مذهب يحل معضلات فهم الكون بيد ان الفلسفة المادية سارعت الى اثارة الشكوك حول هذا الانفتاح العلمي على عالم الغيب وحولت المباحث الروحية الى غايات بعيدة الخطر، وكان على العلم ان يبحث مرة اخرى على افاق جديدة للفهم الصحيح وقد جاء هذا في قضية انشطار الذرة اذ كان الظن الى عهد قريب ان المادة لا تنقسم الى ما لا نهاية بل تقف عند حد لا يتجزأ وهو الذي سموه الذرة ثم اثبت العلماء ان الذرة قابلة للتجزئة، فبعض الذرات تنفجر من تلقاء ذاتها مثل ذرات الراديوم واليورانيوم واتضح ان الذرة تتحلل الى ثلاثة اجزاء وبذلك انطلقت المادة الذرية واصبحت طاقة يمكن استخدامها في اغراض الحرب واغراض السلم.
معنى هذا ان افقاً جديداً قد كشفه الله تعالى للانسان من اجل ان يصل الى الحقيقة ان مفهوم المادة القديم قد تغير واصبحت المادة طاقة واصبحت المادة تتحول الى طاقة والطاقة الى مادة وغدت المادة والطاقة مظهرين لشيء واحد، وفي هذا السياق يقول العلماء الطبيعيون ان القول بالمادية المطلقة يستتبع القول بأن المادة ازلية ابدية وانها كاملة غير متطورة وهذا يتنافى والقوانين العلمية كما يستلزم انكار العقل وهو غير مادي وان الحتمية تفرض وجود نظام في المادة هو نفسه دليل على وجود قوانين تحكم حركة المادة التي قيل انها ثابتة لانها كاملة، والقوانين هي علاقات عقلية لا تصنعها المادة بنفسها لانها غير عاقلة والحتمية تقتضي ان تسير المادة وفق غاية مرسومة والغاية توضع قبل ان يوجد الشيء الذي يحققها، فالنحاة قبل ان يعمل ازميله في قطعة الحجر يكون قد رسم لنفسه الغاية التي يبتغيها من عمله معنى هذا ان الغاية سابقة على وجود الشيء وهي فكرة عقلية تحكم المادة وتواجهها فهي اذن تستلزم وجود فوة روحية عاقلة.
والواقع ان اخطر مرحلة في تاريخ العلم الحديث وهي التي سوف تقاهر مصيره لاجيال بعيدة وتفتح له صفحة جديدة بعد هذه الاعوام الثلاثمئة من الصراع مع الدين انما هي مرحلة انطلاق الذرة، هذه المرحلة التي الغت نظرية الانفصال بين المادة والطاقة فأصبح معلوماً ان المادة تصبح طاقة وان الطاقة تصبح مادة، وبهذا دخل عالم الغيب صميم العلم، هذا العالم الذي ظل العلم المادي وما تزال الفلسفة المادية تنكره ان فروع العلم كافه تثبت ان هناك نظاماً معاجزاً يسود هذا الكون اساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل والتي يسعى العلماء جاهدين لا كتشافها والاحاطة بها، واخيراً فأن علماء المادة يقولون ان الاله الذي ينبغي ان نسلم بوجوده لا ينتمي الى عالم الماديات ولا تستطيع حواسنا المحدودة ان ندركه وعلى هذا يكون من العبث ان نحاول اثبات وجوده بأستخدام العلوم الطبيعية لانه يشغل دائرة غير دائرته المحدودة الضيقة، اجل ينبغي ان نسلم بأن هذا الكون المادي الذي يخضع لقيود الزمان والمكان ليس الا جزءاً من الحقيقة الكبرى التي ينطوي عليها هذا الوجود.
*******