"المتغوِّط في ظلِّ النُزّال"
ونحن نعرف أنَّ من الواجبات في التشريع الإسلاميّ، حفظ النظام العام. ومن حفظ النظام، النظافة العامَّة، فلا يجوز للإنسان أن يساهم بقذارة الأماكن العامَّة، مثل أماكن استطراق النَّاس، أو أماكن استظلالهم، أو أماكن استراحتهم في الطرقات، بأن يضع فيها قذارته، ما يمنع الناس من استخدامها لحاجاتهم في الاستظلال أو في الاسترواح وما إلى ذلك، فضلاً عمّا ينجم عن ذلك من آثارٍ صحيَّة قد يثيرها الغائط، كانتشار الميكروبات التي قد تؤدّي إلى الأمراض بطريقة أو بأخرى، وما تنتجه من روائح نتنة تُسيء إلى تنفّس المواطنين.
"والمانع الماء المنتاب"
الشخص الثاني الملعون، هو الّذي يمنع الناس من الاستفادة من الماء، من قبيل المنع عن الينابيع التي يحتاجها النَّاس للاستسقاء، سواء للاستسقاء من أجل الشرب، أو الاستسقاء كما هو متعارف للزّراعة، أو لغير ذلك من حاجات النَّاس إليها. وكذلك بالنِّسبة إلى الأنهار الصَّغيرة وما إلى ذلك، إذ نجد أنَّ بعض الناس يمنعون الاستسقاء من الأنهار الصغيرة، لأنهم يريدون أن يستغلّوها في زراعتهم أو لحاجاتهم، وربما نجد بعض (الشركات) تحتكر ماء الشرب وتتاجر به، وربما يمنعون الناس عن حاجاتهم الاستهلاكية.
هذا كلّه يخالف النظام العامّ، لأنَّ الله جعل الناس شركاء في المياه التي فجّرها ينابيع في الأرض، أو جعلها أنهاراً تجري هنا وهناك. ويمكن أن نستوحي من ذلك أيضاً، وإن لم يكن اللّفظ شاملاً له، أنَّ ذلك يشمل ما يوضع في البحار من الأشياء التي تمنع الاستفادة من البحر، والتي يمكن أن تقتل الثّروة السمكيَّة، مثل بعض السفن التي تُطلق النفط بطريقة أو بأخرى، أو تُثير بعض السموم أو ما أشبه ذلك، فإنَّ هذا كله مخالفٌ للنظام العام، لأنَّ النظام العام يعتبر أن المياه التي خلقها الله في الأرض، والتي أنزلها بواسطة المطر، هي من الثَّروات العامَّة للناس كافة، فلا يجوز لإنسان أن يستغلها بمعزل عن الآخرين، وقد ورد في الحديث: "الناس شركاء في ثلاث"، وذكر منها الماء.
والملعون الثالث هو "والسادّ الطَّريق المعربة"1،
وهو الإنسان الذي يسدّ الطريق الواضحة المفتوحة، لأنَّ الطريق المفتوحة هي الطريق التي تمثِّل حاجة الناس للاستطراق، فلا يجوز لإنسان - مهما كان - أن يعطِّل الطريق أو يسدّها أو يمنع الناس من الاستطراق فيها، كما هو حال بعض الناس الذين يعملون على إحراق الدَّواليب، إما في مظاهرة أو ما أشبه ذلك، حتى يمنعوا الناس من المرور عليها، مع ما يثيره ذلك من دخان يؤثِّر قي صحة الناس، ولما ينتج منه من تلوّث للبيئة. ولذلك، كنا قد أصدرنا منذ زمن بعيد في لبنان فتوى بتحريم ذلك.
نعم، في بعض الحالات التي قد تمسّ مسألة أمن الناس، وذلك عندما تكون هناك بعض الخطط الأمنيَّة التي يحتاجها الناس في حفظ أمنهم، وفي مواجهة الذين يخنقون أوضاعهم، فقد تُسدُّ الطرق، وقد يمنع الناس من السير فيها، إلى حدّ يكون أشبه بمنع التجوّل، ولكن هذه تجوز في حال وجود ضرورات أمنية، من أجل حفظ حياة الناس وحفظ أمنهم وحفظ أوضاعهم بشكلٍ محدودٍ جدّاً.
أو قد يُحتاج أحياناً إلى سدِّ الطريق لبعض الوقت في العبادات العامّة، كصلاة الجمعة مثلاً، فإنَّ ذلك يعدُّ استثناءً من ذلك، ولا سيَّما أنّه يتّصل بالشأن العام، ولا يعود إلى منفعة شخصيَّة، أو قد تكون هناك عناوين ثانويّة تحكم الواقع، كما لو كانت هناك ثورةٌ على الواقع الجائر، ويتطلَّب الأمر إغلاق بعض الطُرق، كجزء من عمليّة تحقيق التَّغيير؛ ولكنّ هذا أيضاً يخضع للعنوان الثانويّ الذي لا بدَّ من دراسته بدقّة في هذا المجال.
[1]الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 293.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 18.
السيد محمد حسين فضل الله