البث المباشر

الأدب العربي المهجري -۳

الخميس 31 يناير 2019 - 19:42 بتوقيت طهران

الحلقة 185

مقياس أصالة أي لون من ألوان الأدب هو إقترابه من مقومات الأمة وقيمها وإتصاله بذاتيتها ومزاجها النفسي، فما هو موقف الأدب المهجري العربي من هذه القاعدة؟ هل هو لون أصيل يمثل الأمة ويصدر عن نفسيتها ويعبر عن مشاعرها؟ والواقع إن أدباء المهجر الثلاثة الكبار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني هم القادرون على الإجابة عن هذا السؤال!!!
لقد اعتمد الأدب المهجري على عناصر ثلاثة هي:
أولاً: الحملة العنيفة على اللغة والدين والمقومات الاسلامية في المجتمع.
ثانياً: استمد المهجريون اسلوبهم في الشعر من الشعر المنثور الامريكي الذي يمثله وايت من، واستمدوا مفاهيمهم من نيتشه ولا ادريه.
ثالثاً: الثورة على الألوهية والإفراط في الإباحة وإدخالها في مرحلة التقديس ومهاجمة القيم الاخلاقية في الحب والزواج.
رابعاً: حاول المهجريون تغيير قيم الأدب العربي بإدخال اسلوب جديد مستغرب يصادم مفاهيم البلاغة.
والحالم والمهوم الرمزي المغرق في العاطفة والخيال المضاد لطابع النفس المسلمة الجادة، ويمكن القول ان المدرسة المهجرية الشمالية كانت ثمرة من ثمار الإرساليات التبشيرية التي وردت لبنان وسيطرة على وجوه التعليم والثقافة فيه ثم كان لهذه الثمار اتصالها بالمدارس الغربية وخاصة مدينة‌ بوستن التي اتخذها المهجريون مقراً لهم وهي من قديم مقر الارساليات التبشيرية في الولايات المتحدة الامريكية، فلما صدرت عن ادبها الجديد تلقفته ايدي رعاة الغزو الثقافي وعملت على اذاعته والدعوة اليه بوصفه لوناً جديداً من ألوان الأدب العربي المتسم بالعنصرية والجرأة وذلك في مواجهة المدرسة العربية الأصيلة التي كان يقودها المنفلوطي وغيره من الأدباء.
والواقع ان الأدب المهجري انما يوفي صرخة الغريب المهاجر المؤثر لقيم الغرب وفنونه وليس فيه طابع العربي المؤمن بوطنه وقيمه، كما اتسم الأدب المهجري بطابع القلق والتمرد والإنقلات من قواعد اللغة والمجتمع وبالتقليد المغرق للآداب الأجنبية والمتأثر بالحملة الأجنبية القائمة على الكناية والاستعارة والموسيقى والخيال والرومانسية ولعل اصدق ان ما يمثله الأدب المهجري ما كتبه جبران خليل جبران نفسه عام ۱۹۱۹ بعد أربعة عشر عاماً من بدأ كتاباته عام ۱۹۰٥، قال في خطاب الى اميل زيدان ان فكري لم يثمر غير الحصرم وشبكتي ما برحت مغمورة بالماء، ومن الحق ان يقال ان اسلوب جبران قد ظهر كثيراً من الشباب وسار سهريان النار في الهشيم ولكنه سرعان ما انطفأ وفقد أثره وذلك لمصادمته بقيم الأمة ‌ومعارضته لمنهجها وتضاربه مع مزاجها النفسي والاجتماعي، ذلك ان جبران كان إقليمياً مغرقاً في الإقليمية إباحياً مسرفاً في الإباحية، وقد حاول في الكثير من نظراته محاكاة مزامير داود ونشيد سليمان وسفر أيوب ومراثي أرمية وتخيلات اشعيا، على حد تعبير ميخائيل نعيمه عنه حيث كان اسلوب التوراة هو المثال الأدبي الأول الذي تأثر به فقد حفلت كتاباته بمجموعة من الصور والتعبيرات التي استقاها من الاسفار التوراتية فهو يقدم اشباه الجمل والظروف والاحوال ثم يمزج ذلك بفن والت وايت من الشاعر الامريكي.
اشار كثير من مترجمي سيرة جبران الى انه بعد حرمان الكنيسة له وهو في العشرين من عمره اثر قصيدته التي هاجم بها الأديان اندفع في طريق احياء امجاد فينيقية وحضارة الكلدانيين، وقد جاهر جبران في خطاب له من بوستن عام ۱۹۲۰ لصديقه نخلة في هذا المعني فقال ان القوم يدعونني في سوريا كافراً والادباء في مصر ينتقدونني قائلين هذا عدو الشرائع القديمة والروابط والتقاليد، وهؤلاء الكتاب يا نخلة يقولون الحقيقة لأني بعد استفسار نفسي وجدتها تكره الشرائع.
وفي مقال له تحدث جبران خليل جبران عن نفسه في قوله انا متطرف حتى الجنون اميل الى هدم ميلي الى البناء، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس وحب لما يأبهونه ولو كان بأمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت لحظة، اما قول بعضهم ان كتاباتي سم في دسم فكلامي يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، الحقيقة العارية هي لأنني لأمزج السم بالدسم بل اسكبه صرفاً غير اني اسكبه في رؤوس نظيفة شفافة. اجل هذه الاعترافات الجبرانية تكشف بوضوح عن طابع غريب عن الأدب العربي وقيمه ومزاجه النفسي، طابع دخيل مسرف بالتحدي والتشريه، وهو في الأغلب ليس طابعاً للنفس المنحرفة التي حملها جبران ولكنه طابع الغزو الثقافي الذي يرفع جبران ويرسم من وراء ذلك اهدافاً وغايات، ومع ذلك فقد سقط أدب جبران ولم يحقق النتائج التي عول عليها دعاة التغريب.
واذا رجعنا الى‌ حياة جبران نفسه لوجدنا تفسيراً واضحاً لإتجاهاته الأدبية وقد عرض لهذه الحياة اصدق اصدقاءه ميخائيل نعيمة في كتابه عنه، كما افاض في ذلك كل الذين أرّخوا لحياته، كان ابوه ميالاً الى حياة اللهو والشراب سكيراً مرحاً وكانت امه مريضة واخواته كن مرضى بنفس المرض الخبيث وانه بدأ حياته بقراءات بسيطة فحفظ مزامير داوود ولم يستطب قواعد العربية من صرف ونحو ثم قصد الى بوستن عام ۱۸۹٥ دفعاً لشقاء العيش وضيق ذات اليد مع اخيه واختيه بطرس وماريانا وسلطانه حيث تعلم الانجليزية ولم يكن يعرف من العربية غير حروف الهجاء ولم يلبث الا ان عاد الى بيروت للتزود من اللغة العربية، ثم توجه جبران الى الاساطير المايثولوجيا وكانت التوراة في ترجمتها العربية هي المكون الاول لاسلوبه الكتابي، وكانت التوراة قد ترجمت باللغة العامية فلما التزم بها المهجريون لم يستطيعوا اعطاء الاسلوب العربي حقه في البلاغة ومن أجل قصورهم هذا هاجموا الاسلوب البليغ وكان مفهوم جبران بعيداً عن الوطنية قريباً الى الولاء الأجنبي فقد كان يؤمن بضرورة دولة منتدبة ينتمي إليها لبنان وسوريا ويرى ان تتولى فرنسا تكوين هذه الدولة ولم يشعر بالراحة إلا بعد اعلان الإنتداب الفرنسي وكان قد اجرى اتصالات مع كثيرين في سبيل تشجيع فرنسا على الإنتداب في لبنان، وكان جبران مريضاً تزاحمت عليه الأمراض منذ وقت مبكر وحملت رسائله صراخاً عالياً لما داهمه من الامراض، القلب يسارع في الوجيع، وتسمم في المعدة، داء النقرس، الانفاس تنفتق بها الرئتان، ان مثل هذه الشخصية بتلك الوراثيات والتكوين الاجتماعي هي شخصية مهزوزة مريضة عقلياً واجتماعياً وجسدياً ولا تصلح لتكوينها عقائدها ان تأخذ مكان الصدارة او التوجيه، ومن اهتزاز شخصية جبران انه كان يدعي انه حاز شهادات عالية من فرنسا وانجلترا في حين لم ينل شيئاً من هذا، وكان يخجل من ان يكون مولده في بلدة بشر الصغيرة في بلد صغير هو لبنان وقد ذكر مرة لنسيب عريضة انه ولد في بمبي في الهند، هذه مستمعي الكريم اشارات عن دوافع التغريب التي ظهرت في شخصية جبران خليل جبران نواصل الحديث عنها ان شاء الله في حلقة قادمة من البرنامج.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة