البث المباشر

الغزو الثقافي الأوروبي وحركة الترجمة

الخميس 31 يناير 2019 - 17:45 بتوقيت طهران

الحلقة 176

بدأت حركة الترجمة من الادب العربي من نقطة حسنة حين حمل لواءها رفاعة الطهطاوي ومدرسة الالسن، في الثلاثينات من القرن التاسع عشر وكانت هذه الحركة ايجابية ارتبطت الى حد واضح بالمدرسة والعلوم والفنون والثقافة والقانون، واستطاعت ان تحقق عملاً كبيراً وتؤدي الى نتائج بعيدة المدى غير ان هذا الاتجاه ما لبث ان تحول الى ناحية الادب والقصص تحت تأثير حركة الغزو الثقافي المبكرة في اواخر عصر الحذيوي اسماعيل حيث تصدر الترجمة في هذه المرحلة عدد من الكتاب السوريين في باديء الأمر ثم المرحلة الموجة غربية قذفت الادب العربي بركام من القصص الفرنسية الخليعة وكان ان انحدرت الى مجال المجتمع والثقافة من خلال ذلك موجة هائلة من القيم والمفاهيم الجديدة التي كانت غريبة على المجتمع وثقافته وعقائدة متعارضة مع ادبه واخلاقياته المستمدة من الفكر الاسلامي.
لم تكن هذه الموجة إلا مرحلة مدروسة من مراحل التبشير والغزو الثقافي الذي بدأ عبر حركة المرسلين الفرنسيين والامريكيين التي قدمت الى بيروت وانطلقت تمديدها الى الادب العربي كله، هذه الموجة الغريبة المغربة قد اعتمدت على أمرين، أولهما إعادة طبع ألف ليلة وليلة وثانيهما ترجمة وتحضير مئات من القصص الفرنسية، وقد قدم هذا القصص في اسلوب رديء في طباعة رخيصة والواقع انه لا يمكن تصور حقيقة هذا الاتجاه والعاملين فيه إلا حين نقدم رأي كاتب من اهل ذلك الجيل هو كرم ملحم كرم الذي صور زعيمهم طاليوت عبده الذي يقول ان الترجمة عنده لن تكون إلا أداء المعنى وقد أهمل طاليوت الصياغة المشرقة رغم إهتمام الأصل بها حتى كاد يكون من المؤلف على بعد أميال كثيرة، وعذره انه يجنح الى كسب رزقه وليس هذا عذر سوي، وعنده ان ما نقل من الفرنسية ليس من الروائع ولن يترجم في معظمه غير القصص العامة البعيدة كل البعد عن الأدب الرفيع الذي لا مستقبل له وكذلك وصف سليم سركيس عمل طاليوت عبده فقال اشتهر انه يعرب ولا يترجم اي انه ينقل المعاني الى العربية ولا يقيد نفسه بالأصل ويكتب في المقاهي وعلى قارعة الطريق او في التزام وعلى السطوح اذا اقتضى الأمر، وهو يحمل في جيوبه مكتبة ففي هذا الجيب ورق ابيض وفي الجيب الآخر رواية فرنسية، يقرأ سطوراً من الرواية الفرنسية ويكتبها بالعربية بخط دقيق وهو يكتب طيلة النهار فلا يمحو كلمة ولا يعيد النظر في سطر واحد.
تلك هي صورة الترجمة في ابرز اعلامها في هذه الفترة تكشف عن نتائج هذا العمل الخطير في حياة المجتمع وهكذا كانت هذه المرحلة مضطربة أشد الإضطراب فقد اختلط فيها التعريب بالترجمة وبلغت الترجمة فيها حداً من الهزال والهبوط ، فقد كان هدف المترجم في هذه الفترة إرضاء القاريء وتسليته من أجل هذا عمدوا الى القصص المثير المتصل بالجنس ونقلوه نقلاً مشوهاً وكان طاليوت عبده ونقولا وأسعد داغر اكثر المترجمين إسرافاً في الترجمة فقد ترجم عبده وحده ستمئة قصة وكتاب. وقد إمتدت هذه المدرسة واتسع نطاقها حتى لفتت انظار الباحثين الأجانب فقال مرجيوس ان اكثر ما ترجم الى العربية من تأليف اهل الغرب إنما هي روايات هدفها اللهو دون المنفعة.
هذه القصص لقيت نقداً عنيفاً من عدد من النقاد في مقدمتهم الاستاذ المازني والدكتور الغمراوي الذي يقول خذ إليك مثلاً تلك القصص الفرنسية التي لخصها طه حسين من آن لآن يلهي بها كثيراً من النشأ ويضل بها كثيراً، وما نظن احداً دخل تلك القصص وخرج منها وهو أقرب الى الفضيلة والعفاف منه قبل بدأها وهذا أهون ما يمكن ان يقال عنها مثالها الزنبقة الحمراء التي ألفها أناتول فرانس اذ كان فيها من المعاني ما يظن ان استاذاً يستحي ان ينقله للناس او ان مجلة مثل الهلال تنشره، وطه حسين اذ لخص هذا الكتاب وترجمه قد دل على انه ممن يرى اطلاق الفن من اطار الفضيلة فلا يكون هناك على الفنان حرج ان يصور الفضيلة كيف يشاء مادام يصورها كما هي، وهو مذهب شاع حديثاً في اوربا واعان على انتشاره ان يجد عوناً من الجانب الحيواني من الانسان وانه وسيلة قوية لنيل الشهرة وجمع المال وفيما يتصل بأثر طه حسين في الترجمة نذكر ما قام به من ترجمة عن بودلر الشاعر الفرنسي، المعروف ان بودلر هذا شاعر منحرف الذات والذوق، في احدى مقاطعه يقول طه حسين نقلاً عن بودلر: «كذلك نفسك التي يحرقها يرق اللذة الملتهب تعدو سريعة جريئة نحو السموات الواسعة‌ المشرقة».
لقد كان هذا الإنحراف في الترجمة دافعاً الى وقوع الأدب العربي تحت سيطرة الاستعمار والنفوذ الثقافي لفرنسا وبريطانيا ولعل هذا هو السر في تحول الترجمة عن أهدافها الاساسية الى التسلية وارضاء رغبات القراء، كان هدف الترجمة في الاساس هو خدمة الادب العربي بنقل الأعمال الادبية الكبرى التي تحقق له قوة وايجابية وقد انحرف هذا الهدف في ظل النفوذ الغربي الى التسلية وترويج القصص المنحرفة والمثيرة، من هذه النقطة انحرف منهج الترجمة كما انحرف مفهومها فأصبحت تافهة غلبت عليها العامية والتصرف في النص والإضافة وحذف فقرات بأكملها وبهذا غلبت ترجمة القصة على الفنون الأخرى، فقد احصى أسعد داغر عشرة آلاف قصة ترجمت حتى أوائل الحرب العالمية الثانية عام ۱۹۳۹ وهو رقم مخيف مقرع فقد ترجم اغلب هذه القصص من الفرنسية اولاً وكان أكثرها من النوع الهابط المنحرف ثانياً، وكان أغلبها بعيداً عن الاداء السليم في الترجمة ثالثاً.
ترجم طاليوت عبده ستمئة قصة والياس فياض خمسة وعشرين مسرحية وابو خليل القياني ستين مسرحية وعني العديد من المجلات الشهرية والاسبوعية بالقصص والاقاصيص المترجمة واولت الصحف التي اصدرها اللبنانيون في مصر اهمية كبرى لهذا العمل وظهرت اصدارات في هذا الشأن اهمها سلسلة الروايات عام ۱۸۹۹، والروايات الشعرية عام ۱۹۰۲ ومسامرات الجيب لخليل صادق ۱۹۰٥ والروايات الجديدة‌ لنقولا رزق عام ۱۹۱۰. وكانت الترجمات عن كتاب ليسوا من الدرجة الاولى وليسوا من ذوي القيم والفن امثال ميشيل هيفاغو ولوتون بيترابل وموريس لبلان ومن ابرز عيوب هذه الترجمات تجاهلها موقفنا التاريخي وقيمنا الاساسية وذاتيتنا كأمة لها عراقتها ودينها ومفاهيمها المتميزة. ان مثل هذه الترجمات المريضة ان هي إلا فصل من فصول الغزو الفكري والتغريب.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة