وإذا كانت مشاهدتي الأولى للفيلم في العام 1996، دفعتني تلقائياً لإسقاط دروسه ومداليله على واقعنا العراقي والإقليمي والإسلامي؛ فإن مشاهداتي له بعد العام 2003؛ جعلتني أستشعر التطابق في كثير من المداليل والأحداث المريرة مع الواقع العراقي خصوصاً، والشيعي عموماً.
كان "والاس" قائداً ستراتيجياً شجاعاً، مخلصاً لقضيته الأسكتلندية حتى الموت، ولذلك؛ استطاع كسب الشعب الاسكتلندي الى جانبه، وحقق لمسار الاستقلال والتحرير والبناء انجازات كبيرة. وفي بداية الحراك شارك أغلب حكام المقاطعات والنبلاء الاسكتلنديون مع "والاس"، إلّا أنهم أخذوا يستشعرون خطره عليهم وعلى نفوذهم ومصالحهم الشخصية، بسبب ماحققه من إنجازات، والتفاف أكثر رعابا هؤلاء النبلاء حوله. وبرغم يقينهم أن حراك "والاس" يصب في مصلحة اسكتلنده وشعبها ومستقبلها؛ إلّا أنهم قرروا التضحية بمصالح البلاد والشعب من أجل ضمان بقائهم ومصالحهم؛ فاتفقوا مع المحتل الانجليزي على الإطاحة بالقائد "والاس"؛ مما تسبب في خسارته بعض معاركه، وقد استغل النبلاء هذه الخسائر لبث الدعايات ضده وتأليب الناس عليه، ثم كانت خيانتهم الكبرى، عندما اتفقوا مع ملك انجلترا على استدراجه عبر إمرأة من البلاط كانت تساعده وتظهر له الود؛ فوقع في مصيدة الانجليز، وألقي القبض عليه، وأعدم في لندن، بعد جولة من التعذيب البشع.
ما يهمني في هذه الأحداث التي وقعت في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، هي سياقات تدوينها، ووجهات النظر حيالها؛ فالمدونات الانجليزية القديمة وصفت ""والاس" بقاطع الطريق والمتمرد ورجل العصابات، بينما وصفته مدونات النبلاء الاسكتلنديين بأنه دكتاتور ومستبد، وتسبب في قتل كثير من الاسكتلنديين، أما مدونوا حروب الاستقلال الاسكتلندية فقد وصفوه بالقائد العظيم وشجاع القلب، وهي الصفات التي تبناها "مل جبسون" منتج فيلم (Brave Heart) ومخرجه وبطله الذي جسد شخصية القائد "وليام والاس".
وقد أثار انتباهي تبني "جيبسون" للرواية الاسكتلندية الثورية لشخصية "وليام والاس"؛ بل تبني الفيلم بكل تفاصيله، من إنتاج وإخراج، وكذلك تمثيل شخصية "والاس" بأداء مذهل، وهو ما كان يريد "جيبسون" إيصاله من رسائل. وقد وجدت أن السبب يكمن في أصول "جيبسون" الايرلندية وموقف أسرته من الاحتلال البريطاني الفعلي للجزء الشمالي من إيرلنده، والأهم من ذلك مذهبه الكاثوليكي المناهض للكنيسة الانجليكانية البريطانية.
وقد عزز عندي إنصاف "جيبسون" للقائد "والاس" وكشفه خيانة نبلاء اسكتلنده ووحشية الاحتلال الانجليزي؛ حقيقة أن التاريخ مهما تعرّض للتزوير والحرف، ومهما حاول المنتصرون وأصحاب النفوذ؛ إعادة توجيهه؛ فإن عجلة الزمن ستقيض يوماً شخصاً أو أشخاصاً، ولو بعد مئات السنين؛ لكشف الحقيقة وإعادة عرض التاريخ بإنصاف، وهو ما شاهدناه أيضاً في أفلام ومسلسلات معاصرة مهمة، كالرسالة ويوم الواقعة والمختار والقائد الوحيد والإمام الرضا وغيرها.
وعود على بدء؛ أرى أن أحداث العراق ولبنان وإيران والشرق الأوسط برمتها، وخاصة ما بعد العام 1979؛ تتعرض لأبشع أنواع التشويه والحرف والتزوير، بسبب قدرة ماكنات التسقيط الداخلية والخارجية العملاقة، والتي تتفوق ـــ بما لايمكن قياسه ـــ على قدرة مؤرخ أو راوٍ أو باحث على توثيق الأحداث وتحليلها بواقعية، والمحافظة على مساراتها ومفاصلها وتفاصيلها.
والأنكى من ذلك؛ أن الواقع العراقي والإقليمي والشيعي، سواء في عهد صدام والمعارضة العراقية، أو في عهد ما بعد العام 2003؛ لايتحمل من الباحث قول الحقيقة وتحليلها بواقعية وعرضها بشفافية بالأسماء والتفاصيل؛ لأن في ذلك محاذير كثيرة تتعلق بالمصلحة العليا أحياناً، وبمصير الباحث أحياناً أخرى، وبمصير نتاجاته ثالثة، وهي عوامل لاتنفع معها شجاعة ولاجرأة ولاتضحية.
هذا الواقع المرير؛ لا نزال نعيشه بكل تفاصيله منذ أربعة عقود وحتى اللحظة؛ ففي كل كتاباتي، وخاصة التاريخية، كانت تواجهني هذه العناصر الضاغظة، وتجعلني أحجم عن ذكر كثير من الأسماء والأحداث؛ مراعاةً للمصلحة العامة، ولكن دون التضحية بالأمانة التاريخية طبعاً؛ بل لاتزال هذه العناصر تمنعني من نشر كتاب كلّفني أربع سنوات من عمري، هو "سنوات الرماد"، ثم كتاب "رزية 2014"؛ لأن فيهما من المعلومات والرؤى والتحليلات؛ ما أعتبر الكشف عنها وتبنيها من قبلي؛ مضراً في المرحلة الحاضرة.
ولا يقتصر الأمر على هذه جزئية نشر الحقائق؛ بل يتعداها الى جزئيات أخرى، التوثيق الفني للأحداث، وهو أمر مقدورٌ عليه عملياً، لكنه لم يتحقق حتى الآن؛ بسبب عدم شعور كثير من المتصدين وقادة الحركات الإسلامية وأصحاب رؤوس الأموال العراقيين الشيعة؛ بأهمية توثيق المرحلة درامياً وسينمائياً، وهو التوثيق الأقرب الى البقاء والى مزاج الناس وعقولهم، وهو ما تنبّه إليه الإيرانيون منذ العام 1980؛ إذ انتجوا آلاف الأفلام والمسلسلات التي توثق لثورتهم الإسلامية والحرب والشأن السياسي الداخلي والتحديات الأمنية والاجتماعية التي تواجه البلاد والشعب، ولم يكتفوا بذلك؛ بل عكفوا على إعادة كتابة التاريخ الديني والإسلامي، وعرضه سينمائياً بأساليب مذهلة.
وكتجربة شخصية؛ فقد حاولت منذ سنين طويلة، تحويل رواية "عروس الفرات" الى فيلم سينمائي ومسلسل درامي، حتى قبل طباعتها ورقياً؛ لقناعتي بأن هذه الرواية تختصر وحشية النظام السابق وما تعرض له الشعب العراقي وحركته الإسلامية، ومقاومتهما ضد النظام، وهو عمل فني سيكون أمام أنظار الجيل الذي لم يعش تلك المرحلة، وأمام انظار الأجيال القادمة، إلّا أنني لم أجد شخصاً يتبنى المشروع؛ بل واجهني بعضهم بكلمات مؤلمة؛ رغم قدرتهم المالية واللوجستية والمعنوية على إنتاج مائة فيلم ومسلسل، وليس مسلسلاً واحداً. وهذا يعني بوضوح أن المشلكة ليست في المال والتمويل؛ بل في فهم أهمية التدوين والدراما والسينما في حفظ الحقائق والتاريخ.
ولربما يظهر "جيبسون" عراقي وإسلامي مستقبلاً، ليتبنى هذه المشاريع، لكي نضمن المحافظة على حقائق تاريخنا، وعرض صورة "وليام والاس" العراقي بإنصاف وعدالة. ولا شك عندي أن مرحلة ما بعد العام 1979 وحتى الآن، أفرزت أكثر من "والاس" عراقي، وهو مادونته بأمانة في كتبي ودراساتي التي أوصيت أن تنشر بعد وفاتي.
د. علي المؤمن