فقرار الانسحاب العسكري الامريكي من أفغانستان لم يكن نتيجة لتغيير ادارة البيت الابيض، أي أنه غير متعلق بالرئيس السابق دونالد ترامب أو الرئيس الجديد جو بايدن، بل هو قرار حكومة العمق الامريكية.
طبعا هنا يظهر ان بايدن أكثر دهاءً من ترامب حيث جعل تاريخ انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان مرتبط بتاريخ هجمات 11 سبتمبر/أيلول ليوهم العالم أن الاحتلال الامريكي لهذا البلد كان له ما يبرره.
فكما ادعت امريكا امتلاك نظام الديكتاتور صدام المقبور لأسلحة الدمار الشامل ليكون مبرراً لإحتلالها للعراق والسيطرة على خيراته بشكل مباشر وتدمير بناه التحتية بالكامل، وهكذا حروبها في سوريا وفي اليمن وفي غيرها من بلدان العالم فالذرائع موجودة ومعلبة لدى الادارة الامريكية في كل مكان تشن الحرب عليه.
وبالعودة الى بداية احتلال القوات الامريكية لأفغانستان والذريعة التي أفتعلتها الادارة الامريكية لتكون مبرراً لغزو هذا البلد، كما هي العادة في كل حروبها التي شنتها على شعوب المنطقة، ففي أكتوبر/تشرين الأول سنة 2001 قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان لتطيح بحركة طالبان، والتهمة المغلفة كانت هي ان الأخيرة تؤوي أسامة بن لادن وقيادات أخرى في القاعدة مرتبطة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول على برجي التجارة العالميين في نيويورك.
وكما نشر الكونغرس الأمريكي، فقد شارك في الحرب على أفغنستان من القوات الامريكية أكثر من 100 ألف جندي، بتكلفة ما يقارب 100 مليار دولار سنوياً، ما عدا تكلفة المتعاقدين الأمنيين الخاصين، والذين يعملون لصالح الولايات المتحدة في أفغانستان، وكانوا أكثر من 7800 متعاقد يحملون الجنسية الأمريكية.
ووفقا لتقرير مجلة Militarytimes الأمريكية، فإن "الحرب الأفغانية" كلفت أكثر من 2 تريلون دولار أمريكي و240 ألف قتيل، اعتماداً على تقرير أمريكي رسمي صادر عن وزارتي الدفاع (البنتاغون) والخارجية.
وتكبدت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدء الحرب عام 2001، أكثر من 2300 قتيل، إضافة إلى إصابة نحو 20660 جندياً بجراح أثناء القتال، وهذا الرقم من قتلى الجنود الأمريكيين يتضاءل أمام الخسائر في الأرواح بين الأفغان من قوات الأمن والمدنيين الأبرياء.
وبعد كل هذه الخسائر تعلن الولايات المتحدة إنسحابها من أفغانستان، وهي تجر أذيال الخزي والعار، دون أن تحقق أي من أغراضها المعلنة قبل الغزو وأثنائه، وتركت البلاد على صفيح نار.
ولكن هنا الجميع يتسائل ، ما هي أغراض واشنطن التي ارادت ان تحققها أو حققتها من حرب ضروس دامت أكثر من عشرين سنة أهلكت الحرث والنسل؟
وهل كانت تريد تحقيق السلم العالمي كما أعلنت عنه في بداية الحرب على أفغانستان؟
ألم يكن بإمكان الولايات المتحدة ان تحقق السلم والاستقرار في المنطقة ـ كما تدعي ـ بدون الحرب وبدون هذه الخسائر؟ لاسيما لو تعاونت مع المجتمع الدولي في هذه القضية!!
كيف يمكن تفسير التحالفات الامريكية مع بعض القوى السياسية في أفغانستان واليوم ينسحب الامريكيون دون ان ينجزوا ما وعدوا حلفائهم به؟
من هنا نستطيع القول جازمين وطبقاً للمعطيات على واقع الساحة الافغانية، أن كل ما أنجزه الاحتلال الامريكي في أفغانستان هو تدمير للبنى التحتية على كل المستويات، سواء الخدمية والصحية والتعليمية والانتاجية.
ومع كل ما جرى فبالتأكيد سيكون هذا الانسحاب العسكري الامريكي يصب لمصلحة الشعب الأفغاني، إذا إستطاعت قياداته أن تضع المنافع الشخصية والفؤوية جانباً وتتوجه نحو بناء البلاد وتعويض ما فاتها خلال سنوات الاحتلال التي لم تخلف سوى الدمار والخراب على كل المستويات.
وعلى الجميع ان يضعوا هذه المسألة نصب أعينهم أن الانسحاب الامريكي من افغانستان يقتصر على الجانب العسكري فقط، وسوف تمارس الولايات المتحدة أبشع الجرائم السياسية ضد الشعب الافغاني، اذا لم تتوحد الاطراف السياسية في مواجهة التواجد الامريكي وتكبح جماح النفوذ الامريكي داخل المؤسسات الافغانية.
ان شعوب المنطقة وأغلب حكوماتها مستعدة لتقديم كل ما في وسعها لمساعدة الشعب الأفغاني كشقيق أثخنته جراح الاحتلال، لاسيما أنها ترتبط بهذا الشعب بروابط الدين والدم والجوار.
وما مبادرة الجمهورية الاسلامية الايرانية في استضافت الحوار الأفغاني ـ الأفغاني وما نتج عنه من بيان ختامي يوم أمس الخميس إلا واحدة من مصاديق التعاون الاخوي بين الشعب الافغاني والشعب الايراني وكما عبَّر عن ذلك المسؤولون الايرانيون بأن "ايران صديق لأفغانستان وجار موثوق به".
وهنا على القيادات الافغانية ان تنتبه ان اعداء أفغانستان يعولون على إغراقه بشكلٍ أعمق في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وهناك المتطرفون من صنع امريكا يتربَّصون للإنقضاض على كرسي الحكم وبالتالي حرق البلاد ، وهؤلاء أصحاب سجل أسود مليئ بالجرائم التي يندى لها الجبين.
فالصبر والحكمة وتغليب المصلحة العامة والتسامح وتشخيص العدو الحقيقي واحترام الآخر هي خلاصة لمقومات نجاح الحكومة الوطنية التي تتشكل في كابل في مرحلة ما بعد الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال الامريكي من أفغانستان.
" وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " التوبة - الآية 105
بقلم / جابر كرعاوي