لقد أقامت سيّدة النساء صروح النهضة الفكرية، ونشرت الوعي السياسي والديني في وقت تلبّدت فيه أفكار الجماهير، وتخدّرت وخفي عليها الواقع ؛ وذلك من جرّاء ما تنشره وسائل الحكم الاُموي من أنّ الاُمويِّين أعلام الإسلام وحماة الدين وقادة المتّقين، فأفشلت مخطّطاتهم، وأبطلت وسائل إعلامهم، وأبرزت بصورة إيجابية واقعهم الملوّث بالجرائم والموبقات وانتهاك حقوق الإنسان، كما دلّلت على خيانتهم وعدم شرعيّة حكمهم، وأنّهم سرقوا الحكم من أهله، وتسلّطوا على رقاب المسلمين بغير رضاً ومشورة منهم.
لقد أعلنت ذلك كلّه بخطبها الثورية الرائعة التي وضعت فيها النقاط على الحروف، وسلّطت الأضواء على جميع مخطّطاتهم السياسيّة وجرّدتها من جميع المقوّمات الشرعيّة.
وتجسّدت في حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) جميع الصفات الكريمة والنزعات الشريفة ؛ فكانت أروع مثلٍ للشرف والعفاف والكرامة، ولكلّ ما تعتزّ به المرأة وتسمو به في دينا الإسلام.
لقد ورثت العقيلة من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومن أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) جميع ما امتازوا به من المثل الكريمة، والذي كان من أبرزها الإيمان العميق بالله تعالى، فقد ضارعتهما العقيلة في هذه الظاهرة.
وقد روى المؤرّخون عن إيمانها صوراً مذهلة، كان منها أنّها صلّت ليلة الحادي عشر من محرّم، وهي أقسى ليلة في تأريخ الإسلام، صلاة الشكر لله تعالى على هذه الكارثة الكبرى التي حلّت بهم، والتي فيها خدمة للإسلام ورفع لكلمة التوحيد.
وكان من عظيم إيمانها وإنابتها إلى الله تعالى أنّها في اليوم العاشر من المحرّم وقفت على جثمان أخيها، وقد مزّقته سيوف الكفر، ومثّلت به العصابة المجرمة، فقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه قائلةً: « اللّهمّ تقبّل هذا القربان، وأثبه على عمله...».
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه.
قدراتها العلميّة
كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها ؛ فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.
قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: أتحبّنا يا أبتاه؟ فأسرع الإمام قائلاً: «وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي ؟! ».
فأجابته بأدب واحترام: يا أبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا (1).
وعجب الإمام (عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى.
وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده ؛ ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمَنْ حمده؟ فخف الله لقدرته عليك، واستحِ منه لقربه منك.(2)
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه، فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة ؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام).
ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات، فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه.
ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي.
وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله).
وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة، وقد قال (عليه السّلام) في حقها «إنّها عالمة غير معلّمة».
وكانت ألمع خطيبة في الإسلام ؛ فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجلّ العالمات، ومن أكثرهنَّ إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.
عناصرها النفسيّة
وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم.وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) قد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، واُمّها سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) سيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميّزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.
لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيّدة في دنيا الإسلام ؛ فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يُعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه.
فقد أظهرت زهراء الرسول بقوّة وصلابة عن حقّ سيد العترة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فهي المؤسّسة الأولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام).
وكذلك وقفت ابنتها العقيلة أمام الحكم الاُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي ؛ فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته، وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.
وعلى أي حال، فإنّا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسيّة لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:
الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.
لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.
إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم.
ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه: «ما عبدتك طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك؟»
وهو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً».
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبّته، وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى.
فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة.لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: «لك العتبى يا ربّ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل».
ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال: «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله»(3).أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(4).
إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل؟
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان.
لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.
الصبر
من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر.
وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة.
وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها.
إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى، وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(5).
وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(6)، وقال تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(7).
لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:
لـلهِ صـبرُ زيـنبَ العقيلهْ كـم شـاهدت مصائباً مهولهْ
رأت مِـنَ الخطوبِ والرزايا أمـراً تـهونُ دونـهُ المنايا
رأت كـرامَ قـومِها الأماجد مـجزّرينَ فـي صعيدٍ واحد
تـسفي على جسومِها الرياحُ وهـي لـذؤبانِ الـفلا تُباحُ
رأت رؤوسـاً بـالقنا تُـشالُ وجـثـثاً أكـفانُها الـرمالُ
رأت رضـيعاً بالسهامِ يفطمُ و صـبيةً بـعدَ أبيهم اُيتموا
رأت شـمـاتةَ الـعدو فـيها وصـنعهُ مـا شاءَ في أخيها
وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ وقـوفها بـين يـدي يـزيدِ
وقال السيد حسن البغدادي:
يـاقـلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ
فـيكَ الـرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا
لوكانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ
في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا
يـكفيكَ صـبراً قـلوبَ الناسِ كلّهمُ
تـفـطّرت لـلذي لاقـيتهُ جـزعا
لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي.
العزّة والكرامة
من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة ؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة، ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم.
ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة، سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة: الصدقة محرّمة علينا أهل البيت.
ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إنّ عمّتنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.
ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها ؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة، والشرف والإباء، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.
الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبويّة الكريمة ؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل: «لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها».
وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته ؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه.
فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً.فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده، وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة.
يقول العلوي السيّد حيدر:
فـتـلـقّى الـجـمـوعَ فـــرداً
ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ
رمـحهُ مـن بـنانهِ و كـأنّ مـن
عـزمـهِ حــدُّ سـيـفهِ مـطبوعُ
زوّج الـسـيفَ بـالنفوسِ ولـكن
مـهرُها الـموت والخضابُ النجيعُ
ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه؛ خوفاً ورعباً منه.يقول السيد حيدر:
عـفيراً متى عاينتهُ الكماة
يـختطف الرعبُ ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مثلهِ
صـريعاً يـجبّنُ شجعانَها
وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (سلام الله عليها) ؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم.
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا يابن مرجانة..(8)
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين.لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر.
ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك(9)؟
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: ما رأيت إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة !
أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجّلت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين، ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة.
أمّا موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.
الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا ؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين، زهراء الرسول.
فقد كانت ـ فيما رواه المؤرّخون ـ لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل، وجلد شاة، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا.وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام)(10).
وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء، أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ.
لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.
المصدر: السيدة زينب (ع) رائدة الجهاد في الاسلام -تأليف: باقر شريف القريشي
------------------
الهوامش:
(1) زينب الكبرى / 35.
(2) أعيان الشيعة 7 / 140.
(3) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 276.
(4) المصدر السابق / 304.
(5) سورة البقرة / 155 ـ 157.
(6) سورة الزمر / 10.
(7) سورة النحل / 96.
(8) تاريخ الطبري 6 / 263.
(9) زينب الكبرى / 61.
(10) صحيح الترمذي 2 / 319، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه 3 / 149، وابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 523، والخطيب في تأريخ بغداد 7 / 36، وغيرهم