البث المباشر

دعاء من القلب

الإثنين 19 نوفمبر 2018 - 18:04 بتوقيت طهران
دعاء من القلب

سئم الإمام موسى الكاظم من السجن وطالت مدة الحبس عليه، وهو رهين السجون فقام في غلس الليل وجدد طهوره وصلى لربه أربع ركعات

 وأخذ يناجي الله بهذا الدعاء الروحي الصاعد من قلب طاهر أثقلته الهموم فقال: (يا سيدي، نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يد هارون الرشيد).

يرشح من هذا الدعاء المرارة التي عاناها الإمام (عليه السلام) في السجن والحزن العميق الذي رزح على صدره خلاف هذه الفترة الطويلة لكن إرادة الله فوق كل إرادة فمنه الفرج وهو على كل شيء قدير.
 

إطلاق سراح الإمام (عليه السلام)

قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(1).
الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مؤمن طاهر وعبد صالح دعا الله عزّ وجلّ لينقذه من هذه المحنة الظالمة التي أثقلت صدره فاستجاب سبحانه لدعائه وأخرج عنه الغمّ الذي أصابه في سجن الطاغية هارون.
فأطلق سراحه غلس الليل. ويعود السبب في ذلك إلى رؤيا رآها في منامه. حدّث عبد الله بن مالك الخزاعي(2) قال:
أتاني رسول الرشيد في ما جاءني به قط، فانتزعني من موضعي، ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم، فعرف الرشيد خبري، فأذن لي بالدخول، فوجدته جالساً على فراشه فسلّمت فسكت ساعة، فطار عقلي، وتضاعف جزعي، ثم قال لي:
ـ يا عبد الله، أتدري لما طلبتك في هذا الوقت؟
ـ لا، والله يا أمير المؤمنين. قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني، ومعه حربة فقال: إن لم تخلّ عن موسى بن جعفر الساعة، وإلا نحرتك بهذه الحربة، اذهب فخل عنه(3).

ولم يطمئن عبد الله بأمر الرشيد بإطلاق سراح الإمام، فقال له: أطلق سراح موسى بن جعفر؟ قال له ذلك ثلاث مرات، فقال الرشيد: (نعم، امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالأمر في ذلك إليك).
مضى عبد الله مسرعاً إلى السجن يقول: لما دخلت وثب الإمام (عليه السلام) قائماً، وظنّ أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت له:
(قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن أدفع إليك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك: إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته الثلاثين ألف درهم)(4).
وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجبا.
وأخذ الإمام (عليه السلام) يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلاً:
(بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا موسى، حبست مظلوماً قل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت له بأبي أنت وأمي ما أقول فقال (صلّى الله عليه وآله):

قل:
(يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصى عدداً، فرج عني) فكان ما ترى(5).
وفرج الله عن الإمام فخلى هارون بعد رؤياه سبيله، وقد مكث في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعينها لنا التاريخ.


بعد إطلاق سراحه لم يذهب الإمام (عليه السلام) إلى يثرب بل بقي في بغداد لم ينزح عنها وكان يدخل على الرشيد في كل أسبوع مرة في يوم الخميس(6).
كان الرشيد يحتفي به كثيراً إذا رآه، وقد دخل عليه يوماً، وقد استولى عليه الغضب من أجل رجل ارتكب جرماً فأمر أن يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام (عليه السلام) عن ذلك وقال إنما تغضب لله، فلا تغضب له أكثر ممّا غضب لنفسه)(7).

الإذن بالرجوع إلى يثرب

طلب الإمام (عليه السلام) من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب، مدينة آبائه وجدّه (صلّى الله عليه وآله) لرؤية عياله وأطفاله، قيل أنه سمح له، وقيل أنه لم يجبه قائلاً له: أنظر في ذلك حتى حبسه في السجن عند السندي(8).


وأكبر الظن أن هارون فرض عليه الإقامة الجبرية في بغداد ولم يسمح له بالسفر إلى وطنه. فمكث (عليه السلام) في بغداد مدة من الزمن لم يحددها لنا قسم كبير من المؤرخين. خلال هذه المدة لم يتعرض له هارون بسوء. قال السيد مير علي الهندي قال: (وقد حدث مرتين أن سمح هارون لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس)(9).


استمر الإمام في تلك الفترة من بذل الجهود لإرشاد الناس وهدايتهم إلى طريق الحق ومن الذين اهتدوا متأثرين بنصائحه بشر الحاني فقد تاب على يد الإمام (عليه السلام) حتى صار من عيون عباد الله الصالحين المتقين لكن التاريخ لم يذكر المدة التي خلي فيها عن سبيل الإمام (عليه السلام)، فيحتمل أنها فترة قصيرة، وكل ما ذكره المؤرخون أنه (عليه السلام) انتقل من سجن إلى سجن، من سجن الفضل بن الربيع إلى سجن الفضل بن يحيى.. فيا سبحان الله إلى هذا الحد محبة الدنيا وعشق السلطان تعمي القلوب عن الحقيقة، وتصم الآذان عن سماع الحق؟!!


فهارون لم يؤمن بكل ما رآه من الآيات والمعجزات التي ظهرت للإمام (عليه السلام) فاطلق سراحه وندم على ذلك فأصر على التنكيل به وكانت الجريمة.

اعتقال الإمام (عليه السلام) عند الفضل بن يحيى

مرة ثانية ألقى هارون القبض على الإمام فأمر باعتقاله عند الفضل بن يحيى، فماذا حدث له في سجنه؟
معاملة حسنة في سجن الفضل:
لما رأى الفضل بن يحيى إقبال الإمام (عليه السلام) على الله سبحانه وتعالى، وانشغاله بذكره، أكبر الإمام ورفّه عليه وأحسن معاملته، فكان يرسل له كل يوم مائدة فاخرة من الطعام، وقد رأى (عليه السلام) من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في السجون الأخرى.

الإيعاز باغتياله من جديد

أوعز هارون للفضل باغتيال الإمام (عليه السلام)، فخاف الفضل من الله وامتنع عن تنفيذ هذه الجريمة النكراء، ولم يلبّ رغبة هارون. ذلك أنه كان ممن يذهب إلى الإمامة ويدين بها، وهذا هو السبب في اتهام البرامكة بالتشيع.
قال الفضل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أقود نفسي إلى النار وأحفر قبري بيديّ؟! لا يمكن أن أنفذ رغبات هارون الطاغية في قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مهما كانت النتيجة.

التنكيل بالفضل

كان لهارون بعض العملاء المأجورين يراقبون ويوصلون بأخبارهم إليه، كما في عصرنا اليوم، انطلقوا إليه وأخبروه بحسن معاملة الفضل للإمام (عليه السلام) ولما سمع ذلك الطاغية استشاط غضباً وأنفذ بالحال خادمه مسرور إلى بغداد ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان الأمر على ما بلغه مضى إلى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل بن يحيى، وكذلك أمره بالوصول إلى السندي بن شاهك مدير شرطته ومنفذ أوامره لينفذ ما أمر به دون أي تأخير.


قدم العميل مسرور إلى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريده ثم دخل خلسة إلى الإمام موسى (عليه السلام) فوجده مرفّهاً مرتاحاً كما بلغ هارون فمضى من فوره إلى العباس وأمره بتنفيذ أمر الخليفة، وكذلك سار إلى السندي فأمره بإطاعة العباس، أرسل العباس فوراً الشرطة إلى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله، فدخل على العباس فأمر بتجريده، ثم ضربه مائة سوط.


خرج الفضل بعد هذا الجزاء الظالم وقد انهارت قواه ودكّت أعصابه متحرقاً على الإمام ماذا سيحصل له.
كتب مسرور الوغد الحقير إلى هارون بما فعله، فأمره بنقل الإمام من عند الفضل واعتقاله في دار السندي بن شاهك. ثم جلس هارون في مجلس حافل ضمّ جمهوراً غفيراً من الناس، فرفع صوته قائلاً: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني، وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه.
ارتفعت أصوات العملاء من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن.
وبلغ يحيى بن خالد ذلك فأسرع إلى الرشيد ودخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس، وأسره قائلاً: يا أمير المؤمنين، إن الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد.
فسرّ هارون بما أخبره صنيعه الوغد وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ويرد له كرامته.
فقال للرشيد: (يا أمير المؤمنين، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرّفه بإزالة ذلك) فأقبل هارون يوجهه على الناس، ورفع عقيرته قائلاً: (إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وناب إلى طاعتي فتولوه).


ارتفعت الأصوات المأجورة ثانية من جميع جنبات الحفل وأعلنت التأييد الشامل لتلك السياسة المتقلبة والمتناقضة وهي ذات لهجة واحدة أعلنها أولئك الناس الذين يهتمون بمصالحهم الخاصة ولا يؤمنون بالقيم ولا بالمثل العليا مرددين:
(يا أمير المؤمنين، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه)(10).
وكما ترى هكذا كانت حالة الجماهير الإسلامية في ذلك العصر قد انحرفت عن المبادئ الأصيلة، وفقدت وعيها وحسها وساعدت الطاغية على ظلمه في أطاعته ونفذت رغباته الظالمة والجائرة بحق إمام معصوم ابن إمام معصوم، شريف بريء لم يقترف ذنباً ولا ارتكب خطأ، ولو كان عندهم أي شعور ديني لما سجن الإمام (عليه السلام) ولما نكل به من سجن إلى سجن مقيداً بالأغلال والحديد.


ويعود السبب في ذلك كله إلى عبث السياسة الملتوية في الأوساط الاجتماعية ونشرها الفساد والفجور والبؤس والشقاء والتسبّب في ربوع ذلك المجتمع حتى كان من نتائجه مواقف مذمومة لا يحمد عقباها بأي حال. كما كشفت لنا هذه البادرة مدى الحقد والكراهية التي يكنها هارون اللعين في نفسه للإمام (عليه السلام) الشريف. فقد نكل بالفضل بن يحيى وهو كان من أعز الناس عنده وأقربهم إليه، وأعلن شتمه وسبه لأنه أحسن معاملته للإمام (عليه السلام) ولم يضيق عليه في السجن. علماً أن المدة التي قضاها الإمام (عليه السلام) في سجن الفضل قصيرة للغاية كما ذكر الرواة أياماً معدودة. ونختصر فنقول:
كانت أرواح الناس في العصر العباسي ودماؤهم يتصرف فيها الحكام حسب ما أرادوا، فالملك يفعل ما يريد فهو ظل الله على الأرض لا يسأل عن ذنب ولا جرم، همه كرسي الحكم وكفى.

 

1- سورة غافر: الآية 60. 
2- كان مسؤولاً عن دار الرشيد وشرطته.
3- مروج الذهب، ج3، ص265. 
4- جاء في المناقب، ج2، ص370 أن الإمام (عليه السلام) رفض الهدايا التي قدمت له.
5- وفيات الأعيان، ج4، ص394، وشذرات الذهب، ج1، ص304. 
6- البحار، ج11، ص270. 
7- الوسائل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- البحار، ج11، ص269. 
9- مختصر تاريخ العرب، ص209. 
10- مقاتل الطالبيين، ص303-304.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة