والعنوان مؤلف من ثلاث كلمات ذات مداليل مترابطة، ونحاول جَدْلها من أجل إعطاء فكرة أقوى وأشد وأجمل عن بعض المعاني الحضارية لمسألة القيادة الإسلامية للدين والدنيا والتي تتمثل هنا بشخصية ومقام الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
فالحرية هي مطلب جماهيري، وضرورة لحياتها من أجل التفتح والعطاء في كل نواحي الحياة العامة والخاصة.
الحرية أصل من أصول الوجود الإنساني وهي دعامة قوية، وركيزة أساسية لهذا الوجود وشرط من الشروط الأساسية لبقائه ونمائه وتفتح أفكاره كتفتح الربيع الذي يهب الدنيا بكل بهجة ولون وعطر، فيتمتع الأحباء بمباهج الحياة البكر.
وليست الحرية من ضرورات الحياة فقط، بل هي فطرة شكلت حقيقة وجودنا الإنساني وجوهره، فلا بديل للإنسان عن الحرية ولا غنى له عنها.
فهو يحتاجها كما يحتاج إلى الخبز والماء والهواء، ويتعطش إليها كما تتعطش الوردة الضاحكة في فم الرابية إلى الماء وقطرات الندى.
فالحرية والإنسان ولدا معاً توأمين، ولا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، إذ لو سلبت من الإنسان حريته لذوى ومات ـ رغم حياته بين البشر ـ كما تذوي الأغصان الطرية عندما تحرم من هبات النسيم وقطرات الماء.
الحرية أعظم كلمة وجهتها السماء للراسفين في أغلال الجهل والضياع، والعجز الإنساني، ولا غرو فلأننا لا نحيا بالخبز وحده، بل بكلمات الله التي ألهمنا إياها بتلقينه وتعليمه، وإن كنا لا نعيها إلاّ على ألسنة أوليائه الكرام، وهذا أكبر وأهم وأعظم.
لأن الخبز ينعش أبداننا، وأما أرواحنا فلا تنعش ولا تنطلق ولا تحيى إلاّ بالحرية. فالحرية نشيد لا يفارق شفاه الإنسان كما لا تفارق النغمة الجميلة لهاة البلابل، ولو منعنا الإنسان من ممارسة حريته فقد تتعطل قواه ونشاطاته ويصبح جثة هامدة، أو ركاماً من الخمول والكسل.
فالأصل في الإنسان الحرية أي أنه مفطور عليها، وهي نابعة من صبغته التكوينية الأساسية (فالحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الإنسان، وظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعاً لمدى حيويتها، ولذلك كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن آخر.
وهكذا كلما ازداد حظ الكائن من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية، فهي أحد المقدمات الجوهرية للإنسانية، لأنها تعبير عن الطاقة فيها.. فالإنسان بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى).
فالحرية أصل من أول تحقق الإنسانية في الإنسان، وهي ضرورة لحياته سواء في الدنيا أو في الآخرة، فلولا الحرية لبطل الثواب والعقاب في الدار الآخرة.
أما في الحياة الدنيا فهي معشوقة الفقراء وضالتهم، وهي عدوة الطغاة وطريدتهم، فأخشى ما يخشاه الطاغية، هو نداء الحرية، وتطلع الشعب والجماهير إلى التحرر من شتى أنواع الاستغلال.
والحرية في هذا العصر هي حديث الساعة باسم (الديمقراطية) فمنهم من يتغنى ويفخر بحريته، ومنهم من يبكي وينتحب عليها، ويذهب يميناً وشمالاً باحثاً عنها عند الدول القوية أو في المحافل الدولية.
وكثيرون لم يعرفوا أن الحرية الحقيقية لأي شعب لا يمكن أن تتحقق إلاّ بقلع جذور العبودية لغير الله من أعماق وقلوب ذاك الشعب (فلكي لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار).
فالشعب الحر يأبى الاستعباد والشعب الذي تجري في عروقه دماء العبودية يتضجر من الحرية وربما يرفضها لأنها لا تلائمه، ولا يستطيع أن يتأقلم معها كحال الملوّنين في أميركا في مطلع القرن الماضي.
ولعل هذه الحرية هي من أبرز الميزات للعرب في الجاهلية إذ كانوا يأبون الضيم، ويبغضون التسلط، من قبل الغير إلاّ برضاهم، ولذلك نجد أن الإمام الحسين عليه السلام قبل معركة الطف بقليل خاطب الجموع الغفيرة التي كانت تتراكض إلى النار بقوله: ( إن لم تكونوا مؤمنين فكونوا أحراراً في دنياكم).
والإمام الصادق عليه السلام هو إنسان، أي أن الله قد غرس في أعماقه الحرية، فتفجر من قلبه العظيم نبع الحريات الإسلامية، فراح يمارسها ويعلمها للناس بتواضع وأناة طيلة عمره الشريف.
وجده أمير المؤمنين عليه السلام قال: ( لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً).
والحرية نظرياً في أعماق الإنسان كالفطرة، وأما عملياً فهي ممارسة مسؤولة ومنظمة وليست ضرباً من الفوضى واللامبالاة والاستهتار بالآخرين أفراداً ومجتمعات.
فالحرية وهي كون الإنسان حر حقيقة فلا فوضى، ولا كبت صريح أو مغلف، وهي لا توجد إلاّ في النظام الإسلامي..). ( فقد أعطى الإسلام للإنسان كامل الحرية، حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل، ولكن في الإطار المعقول الصحيح ( من عدم الإضرار بالآخرين، وعدم الإضرار البالغ بالنفس).
وإن المتأمل في كلمة (التوحيد) التي ذكرت في القرآن والسنّة آلاف المرات، والتي يرددها المسلمون في شعائرهم في وقت الصلاة وغيرها، يجد أن هذه الكلمة هي رمز الحرية وجوهرها، لأنه عندما صدع الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله بكلمة (لا الله إلاّ الله) فإنه فجّر ثورة على كل القيود (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..).
وأعلن أنه لا سيد إلاّ سيد واحد هو الله سبحانه وتعالى، ويجب أن لا يطاع إلاّ هو وحده وللمرء أن يقيم صلة مباشرة بينه وبين الله.
والإمام الصادق عليه السلام جسد هذه النظرية، وطبقها بحذافيرها في مدرسته الفكرية في ذاك العصر الرهيب، وأول ما طبقها هو نفسه على الكثير من النظريات العلمية الوافدة، بحيث أنه لا يكاد يرىـ ببصيرته النافذة وعلمه اللدني ـ أي خطأ في نظرية من النظريات إلاّ ويوجه إليها نقده مشيراً إلى الخطأ ومعطياً البديل الصحيح ليُثبت في كتب العلم عند تلامذته. وبهذا الأسلوب، والمنهج الشجاع والفريد في زمن كانت النظريات العلمية تؤخذ كمسلّمات وحقائق لا يجوز التشكيك فيها أو انتقاصها وحتى التفكير فيها، بل تؤخذ كما هي على علاّتها.
إن الدين الإسلامي، وأئمة المسلمين أعطوا الحرية حقها لاسيما الإمام السادس جعفر محمد الصادق عليه السلام فقد ناقش الكثير من النظريات بكل حرية، وسمح لكل الملل والنحل بأن تناقشها بأدق التفاصيل دون قيود أو أغلال، وقد حدثنا التاريخ عن أمثال ابن أبي العوجاء ذاك المنحرف عن خط التوحيد، والتارك لأستاذه الحسن البصري. هذا الرجل جاء ذات يوم من أيام الحج إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال: يا أبا عبد الله، إن المجالس بالأمانات، ولابد لكل من به سُعال أن يسعل، أفتأذن لي بالكلام؟
فقال عليه السلام: تكلم.
فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر (تعريضاً بالطواف والحج وشبهه بالبيدر عند الحصاد) وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت (الكعبة) المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله كهرولة البعير إذا نفر، إن من فكر بهذا وقدر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أُسه ونظامه.
فقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق، ولم يستعذبه، وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره (تقديم رائع، وتنبيه للفطرة الإنسانية في المخاطب) وهذا البيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله محلّ أنبيائه، وقبلة المصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحق فيما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور.
فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت الله فأحلت على الغائب.
فقال الإمام الصادق عليه السلام: ويلك، كيف يكون غائباً من هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم.
وفي رواية أخرى: دخل رجل على الإمام الصادق عليه السلام وقال: أرأيت الله حين عبدته؟
فقال عليه السلام: ما كنت أعبد شيئاً لم أره.
قال الرجل: كيف رأيته؟
قال الإمام عليه السلام: لم تره الأنظار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه.
فرجل عظيم، وإمام للدين، وقمّة للإنسانية كالإمام الصادق عليه السلام يسمح لمثل هؤلاء بالتشكيك بالعقائد والعبادات أو حتى الاستهزاء ببعضها ـ كما سمح لابن أبي العوجاء وغيره ـ إلاّّ أن الإمام عليه السلام يستقبلها بصدر رحب، ونضوج، ويحاورهم بعقلية المعلم المسؤول الذي يعطي الحرية لكل رأي حتى يعلم ما عند الناس من آراء وأفكار فاسدة أو صالحة..
ويروى أيضاً أنه جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام زنديق وسأله عن الصانع تعالى، والأنبياء عليهم السلام، وغيرهم إلى أن وصل إلى مسألة السحر والشياطين.
فقال: فأخبرني عن السحر ما أصله؟ وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعله؟
فقال الإمام عليه السلام: إن السحر على وجوه شتى.
وجه منها: بمنزلة الطب، كما أن الأطباء صنعوا لكل داء دواء، فكذلك علم السحرة، فاحتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة..
ونوع آخر منه: خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة..
ونوع آخر: ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم.
قال الرجل: فمن أين علم الشياطين السحر؟
فقال الإمام عليه السلام: من حيث عرف الأطباء الطب، بعضه تجربة وبعضه علاج..
قال الرجل: فما تقول في الملكين هاروت وماروت؟ وما يقوله الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟
فقال الإمام عليه السلام: إنما موضع ابتلاء، وموضع فتنة..
قال الرجل: أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟
فقال الإمام عليه السلام: هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغيّر خلق الله.
وجاء في الأخبار: أن رجلاً يمانياً اسمه (سعد) جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام وهو من علماء الفلك والنجوم فسأله الإمام عليه السلام بعد أن عرّفه عليه من كان معه.
قال الإمام عليه السلام: ما صناعتك يا سعد؟
فقال: جعلت فداك، إنا أهل بيت ننظر في النجوم، ولا يقال أن باليمن أحد أعلم بالنجوم منّا.
فقال الإمام عليه السلام: كم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة؟
وكم يزيد ضوء القمر على ضوء المشتري درجة؟
وكم يزيد ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة؟
وكم يزيد ضوء عطارد على ضوء الزهرة درجة؟
وما هو النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟
وما هو النجم الذي إذا طلع هاجت البقر؟
وما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟
وفي كل ذلك يجيب الرجل اليماني بـ (لا أدري).. ويصدقه الإمام الصادق عليه السلام.
وسأله الإمام عليه السلام قائلاً: ما زحل عندكم في النجوم؟
فقال الرجل: نجم نحس.
فقال الإمام عليه السلام: لا تقل هذا فإنه نجم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو نجم الأوصياء عليهم السلام وهو النجم الثاقب الذي قال الله تعالى في كتابه..
ثم قال الإمام الصادق عليه السلام: يا أخا العرب أعندكم عالم؟
فقال اليماني: جعلت فداك، إن باليمن قوماً ليسوا كأحد من الناس في علمهم.
فقال الإمام عليه السلام: وما يبلغ علم عالمهم؟
فقال اليماني: إن عالمهم ليزجر الطير، ويقفو الأثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث..
فقال الإمام عليه السلام: إن عالم المدينة أعلم من عالم اليمن (ويعني نفسه الشريفة).
فقال اليماني: وما يبلغ علم عالم المدينة؟
قال الإمام عليه السلام: إن علم عالم المدينة ينتهي إلى أن لا يقفو الأثر، ولا يزجر الطير.. ويعلم في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس تقطع اثني عشر بجاً، واثني عشر براً، واثني عشر بحراً، واثني عشر عالماً..
فقال اليماني: ما ظننت أن أحداً يعلم هذا، وما يدري ما كنهه؟!!
***
والحرية في مدرسة الإمام الصادق عليه السلام لم تقتصر على الملل والنحل والأغراب عن دنيا الدين بل ناقش عليه السلام وحاور وسدد الكثير من أئمة المذاهب الإسلامية التي نشأت في عصره ذاك.
فقد حاور الإمام عليه السلام قاضي بلاد المسلمين (ابن أبي ليلى) فأحرجه حتى اصفرّ لونه.. ودخل عليه ذات مرّة الإمام الأعظم ـ كما يسمونه ـ أبو حنيفة النعمان فقال الإمام الصادق عليه السلام: لعله الذي يقيس الأشياء برأيه؟
يا نعمان.. هل تحسن أن تقيس؟
قال: لا.
قال الإمام عليه السلام: ما أراك تحسن أن تقيس شيئاً فهل عرفت الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين، والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الفم؟
قال: لا.
قال الإمام عليه السلام: فهل عرفت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟
وبعد تفسير ذلك لهم قال الإمام عليه السلام: يا نعمان إياك والقياس.. فإن أبي حدثني عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: من قاس شيئاً من الدين برأيه قرنه الله تبارك وتعالىمع إبليس. فدعوا الرأي والقياس فإن دين الله لم يوضع على القياس.
وكم يروي أصحاب التواريخ والسنن عن هذه المناظرات الفقهية بين الإمام الصادق عليه السلام ورجالات الفقه بالمذاهب الأخرى، والملفت في الأمر أن أئمة المذاهب (الأربعة) الباقية إلى اليوم هم خريجو كلية الإمام الصادق الفقهية، وأثبت ذلك وأكده علماء الفرق الإسلامية، واستقصاء الشيخ أسد حيدر في كتابه الفذ (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة) وكذلك ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة.
والنعمان أبو حنيفة كان يقول: لولا السنتان لهلك النعمان.. وهما السنتان اللتان تتلمذ فيهما عند الإمام الصادق عليه السلام بالمدينة قبل مغادرته إلى بغداد، وراح يبني مذهبه على القياس الباطل والمنامات لأنه (رأى الله في منامه ألف مرة) سبحانك اللهم إن هذا إلاّ بهتان عظيم.
نتائج الحرية في مدرسة الإمام الصادق عليه السلام
تميزت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام على المذاهب الأخرى في عصره بحرية الرأي والبحث ـ مع الاحترام لكل الآراء ـ فكان ذلك من أهم أسباب انتشار المعارف الجعفرية (الإسلامية) وذيوعها.
وبذلك فقد أرسى الإمام الصادق عليه السلام للثقافة والعلوم الإسلامية أساساً هيأ لها أسباب الذيوع والانتشار قبل نهاية القرن الثاني الهجري، بل لقد أصبحت هذه الثقافة نموذجاً لحرية الرأي والبحث، فاقتدت بقية الفرق الإسلامية بالشيعة الجعفرية في المباحث الكلامية والعلمية. فحرية الرأي والبحث في أمور الدين بدأت في الإسلام في عصر الإمام الصادق عليه السلام وما بعده، وكانت المدرسة الجعفرية تتناول المسائل الدينية جنباً إلى جنب مع المسائل العلمية (الدنيوية)، ومع الوقت أصبح علماء الجعفرية يناقشون المسائل الدينية والفكرية ويثبتونها بقوانين العلم ومبادئه. ويُسجل للإمام الصادق عليه السلام السبق إلى الكثير من النظريات والدراسات العلمية والنظرية الفلسفية، وتدريسها كذلك، وهي محظورة لشدة خطورتها على العقائد، فقد قرر ـ ولأول مرة في تاريخ الأديان والأمم ـ تدريس هذه العلوم جميعاً إضافة إلى الفلسفة جنباً إلى جنب مع العلوم القرآنية والفقه الإسلامي.
وقد تولى الإمام الصادق عليه السلام بنفسه الزكية تدريس هذه العلوم ولم يستبعد منها الفلسفة أو الحكمة أو العرفان، لأن هذه العلوم كانت تمثل المبادئ للمجادلات التي يستعان بها في إثبات حقيقة الله والكون. والإمام بهذه المنهجية ربى الكثير من العلماء الأفذاذ وجعل لهم تخصيصاً في البحث والدرس وحتى الحوار، وكان كثيراً ما يعتمد على أحدهم بإدارة الحوار وهو بمجلسه، وعند الانتهاء من الحوار يستحسن الصواب من أي كان من المتحاورين، ويصلح الخطأ من أيهما كان. ولمعرفة المنصور العباسي بحقيقة الإمام الصادق عليه السلام وأحقيته بالقيادة والسيادة، وتوجساً منه لما له في القلوب من حب واحترام، توجه إليه ذات يوم مهدداً ومتوعداً بعد أن اعترف قائلاً: (قتلت من ذرية فاطمة ألفاً أو يزيدون..) وأشار إلى الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: (أقتلنك، ولأقتل أهلك حتى لا يبقى على الأرض منك قامة سيف... ولأضربن المدينة (المنورة) حتى لا أترك فيها جذراً قائماً..). رغم كل التضييق الأموي، إلاّ أن العصر العباسي كان أشد وطأة على أتباع المذهب الحق...
إلاّ ليت ظلم بني مروان دام لنا
وعدل بني العباس في النار
ذلك لأن الأمويين كانوا على وشك الانتهاء أما بنو العباس فكانوا في بداية ثورتهم، وانطلاقتهم، إلاّ أن ما بين الحكمين كان مناسباً لتربية الكوادر الرسالية (ونشر ثقافة الإسلام بين الناس) فاستغل الإمام الصادق عليه السلام فترة السقوط الأموي، والانتقال إلى الحكم العباسي فأنشأ هذه الجامعة الإسلامية الكبرى. فالمخاطر كانت تحيط بمدرسة الإمام الصادق عليه السلام والمختلفين إليها، وكان طلاب المدرسة يعلمون علم اليقين بأن الإمام عليه السلام لا يملك مالاً ولا مناصب فيوزعها عليهم، فلم يجتذبهم إلى مدرسته ـ برغم هذه المخاطر، وبرغم انعدام المنفعة المادية ـ إلاّ إخلاص مستقر في النفس، وإيمان عميق في القلوب، وانجذاب لشخصية الإمام عليه السلام وإعجاب بدروسه التي يلقيها ببيانه العذب، ويستهدف بها الحقائق وجوهر المعرفة.
خاتمة
إن الحرية تصنع المعجزات، وما صنعه الإمام الصادق عليه السلام هو من أكبر المعجزات في تاريخ البشرية، لأنه صنع رجالاً كتبوا التاريخ بالدماء الطاهرة، ورسموا معالم الطريق بحقائق باهرة، وأعطوا الدنيا علوماً عامرة، ترفع الإنسان لأنها تصقل إنسانيته، وتجعل منه رجل حضارة إنسانية عالمية.
والحق أن مجلس الإمام الصادق عليه السلام ومدرسته كانا يمثلان منبراً حراً لتلامذته ومريديه، لهم أن يسألوا، ولهم أن يعترضوا، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وأحاسيسهم بحرية تامة، كما أن من حقهم أن ينتقدوا آراء أساتذتهم، لأنه لم يكن الإمام عليه السلام يفرض على تلامذته رأياً معيناً، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك فقد كان ينتهي الأمر دائماً بإذعانهم، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة والمنطق السليم والبيان الرائق.
لقد وضع الإمام السادس عليه السلام من أئمة المسلمين للعالم أجمع وللمسلمين بشكل خاص منهجاً متكاملاً للمعارف والعلوم الدينية والدنيوية، وبيّن الأسلوب الأنجح لتلاقح الأفكار وابتكار النظريات العلمية، وذلك بالحرية المطلقة للفكر، والحوار الدائم والبناء للأفكار.
فالمنهج الصحيح، والأسلوب الصريح من جملة مزايا مدرسة الإمام الصادق عليه السلام وأما النتائج والآثار فإنها سوف تظهر عند الإمام الحجة عليه السلام من أحفاد الإمام السادس عليه السلام في دولته المنتظرة، دولة الرفاه، والعدل، والحرية، والحضارة الإنسانية، والتي ستكون على مستوى العالم والدنيا، بإذن الله.
جعلنا الله من الشاهدين والمستشهدين في ظلالها، وتحت لوائها المظفر,.. إله الحق آمين.