ويبدو أن الظروف في عهده لم تشهد تطورا نحو الاحسن بين أهل البيت عليه السلام والبيت الاموي الحاكم، فان حادثة اغتيال الامام السجاد عليه السلام بالسم، ومن قبلها مأساة الطف مازالت حية في النفوس...
ويبدو من سليمان بن عبد الملك، الذي كان يخشى على ملكه وسلطانه من اهل بيت النبوة عليه السلام لا سيما وقد ارتكب جريمة اغتيال الامام السجاد عليه السلام من قبل قد انشغل طوال فترة حكمه القصيرة في تصفية كل القيادات التي اعتمدها الوليد من قبل، فقد صب حقده على اسرة الحجاج بسبب حقده على الحجاج ذاته لعوامل شخصية. كما عزل ولاة البارزين وعاقب بعضهم بالموت كمحمد بن القاسم، ومع انشغال سليمان بالاجهاز على ولاة الوليد، كان ذلك مشغولا بالطعام والنساء والبذخ بشكل جعل المؤرخين يقطعون بكونه افسد ممن سبقه من سلاطين بني امية.
وبتولي عمر بن عبد العزيز قيادة الحكم الاموي حدث تحول كبير لصالح الإسلام والدعوة، فالبرغم من قصر أيام الرجل المذكور في الحكم، إلاّ ان مواقفه من أهل البيت عليه السلام كان فيها الكثير من الانصاف فقد عمل على رفع الحيف عنهم واطاح ببعض انواع الظلم الذي لحق بهم، فرفع السب عن الامام علي عليه السلام من على المنابر ذاك الذي سنه معاوية، وعممه على الامصار فصار سنة يستن بها كل سلاطين بني امية في خطبة الجمعة، حتى عهد عمر بن عبد العزيز، الذي منعه، واستبدل به في خطبة الجمعة قوله الله تعالى (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بعظكم لعلكم تذكرون).
وكما رفع السب عن امير المؤمنين عليه السلام اعاد فدكاً الى الامام الباقر عليه السلام معتبرا أمر مصادرتها من لدن الحكام السابقين لا مبرر له. فعن هشام بن معاذ قال كنت جليسا لعمر بن عبد العزيز، حيث دخل المدينة، فأمر مناديه فنادى من كانت له مظلمة، و ظلامة فليأت الباب، فأتي محمد بن علي فدخل اليه مولاه مزاحم، فقال : ان محمد بن علي بالباب، فقال: ادخله يا مزاحم. فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع، قال له محمد بن علي: ما ابكاك يا عمر؟ فقال هشام: ابكاه كذا وكذا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال محمد بن علي: يا عمر انما الدنيا سوق من الاسواق، منها خرج قوم بما ينفعهم ومنها خرجوا بما يضرهم، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي اصبحنا فيه حتى اتاهم الموت، فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لم يأخذوا لما احبو من الاخرة عدة ولا ممّا كرهوا جُنّة، قسّم ماجمعوا من لا يحمدهم، وصاروا الى من لا يعذرهم، فنحن والله محقوقون ان ننظر الى تلك الاعمال التي كنا نتخوف عليهم منها فنكف عنه، فاتق الله واجعل في قلبك اثنتين: تنظر الذي تحب ان يكون معك اذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه ان يكون معك اذا قدمت على ربك فابتغ فيه البدل، ولا تذهبن الى سلعة قد بارت على ما كان قبلك ترجو ان تجوز عنك، واتق الله عزوجل يا عمر، وافتح الابواب وسهّل الحجاب وانصر المظلوم ورد المظالم.
ثم اقل: ثلاث من كن فيه استكمل الأيمان بالله، فجثا عمر على ركبيته ثم قال: إيه يا أهل بيت النبوة..
فقال عليه السلام : نعم يا عمر: من اذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل. واذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن اذا قدر لم يتناول ما ليس له.
فدعا عمر بدواة وقرطاس. وكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي: فدك).
وبالنظرالى ان البيت الاموي لم يألف مهادنة أهل بيت الرسالة عليه السلام قط، فان ابن عبد العزيز كان يواجه الضغط من بني امية بسبب سياسته الانفتاحية عليهم، فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام : عن ابيه قوله: (لما ولي عمر بن عبد العزيز اعطانا عطايا عظيمة، فدخل عليه اخوه فقال له: ان بني امية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم، فقال عمر: افضّلهم لاني سمعت حتى لا أبالي ألا اسمع، ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: انما فاطمة شجنة مني، يسرني ما اسرها ويسؤوني ما اساءها فأنا ابتغي سرور رسول الله صلى الله عليه وآله واتقى مساءته).
على ان زعامة ابن عبد العزيز لم تدم أكثر من سنتين وخمسة اشهر، فتولى الحكم بعده يزيد بن عبد الملك، والمشهور تاريخيا بلهوه وخلاعته وغزله الماجن، واذا كان انشغال الاخير بأعماله الصبيانية ومجونه لم يعطه فرصة التصدي لمسيرة الإسلام التاريخية التي يقودها الامام الباقر عليه السلام، فان تولي هشام بن عبد الملك لقيادة السياسة المنحرفة قد خلق انعطافا تاريخيا لغير صالح الحركة الإسلامية فالحاكم المذكور كان خشن الطبع، شديد البخل فضا ناقما على المسلمين من غير العرب، فضاعف من حجم الضرائب المالية عليهم وأعاد أيام يزيد والحجاج الدموية، فتصدي له أهل البيت عليهم السلام من خلال انتفاضة الشهيد زيد بن علي عليه السلام التي كانت صدى لثورة الحسين عليه السلام وامتدادا له، فاستشهد هو واصحابه وامر الطاغية هشام بصلب جثته ومن ثم حرقها وذر رمادها في نهر الفرات!!!
إن هشام بن عبد الملك كان واثقا من ان مصدر الوعي الاسلامي الصحيح انما هو محمد الباقر عليه السلام وان وجوده حر طليقا يمنحه مزيدا من الفرص لرفد الحركة الاصلاحية في الامة وتكريس مدها المتعاظم ومن اجل ذلك رأت السياسة المنحرفة ممثلة بحفيد مروان ان يحال بين الامام عليه السلام وبين استمراريته بالعمل الرسالي وقد اتجه المكر الاموي نحو اعتقال الامام عليه السلام وابعاده عن عاصمة جده المصطفى صلى الله عليه وآله التي اجتمعت هي والحجاز عموما على اجلاله والتمسك به.
وهكذا حمل الامام عليه السلام وابنه الصادق عليه السلام الى دمشق بأمر السلطة الاموية لإيقاف تاثيره في الامة المسلمة وحجبه عن اداء دوره الرسالي العظيم، واودع في احد سجون الحكم هناك.
بيد أن تأثيره الفكري فيمن التقى بهم حمل السلطة الامية على اطلاق سراحه كما تفيد رواية ابي بكر الحضرمي حيث يقول :( لما حمل ابو جعفر الى الشام الى هشام بن عبد الملك وصار ببابه، قال هشام لاصحابه: اذا سكت من توبيخ محمد بن علي فلتوبخوه، ثم أمر ان يؤذن له فلما دخل عليه ابو جعفر قال بيده: السلام عليكم واشاره بيده فعمهم جميعا بالسلام ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقا بتركه السلام بالخلافة وجلوسه بغير اذن.
فقال: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا على نفسه وزعم انه الامام سفها وقلة علم، وجعل يوبخه...فلما سكت هشام اقبل القوم عليه رجلا بعد رجل يسئ الادب مع الامام عليه السلام، فلما سكت القوم نهض الامام عليه السلام قائما ثم قال: أيها الناس أنّى تذهبون وانّى يراد بكم؟ بنا هدى الله أو لكم وبنا ختم اخركم، إن يكن لكم ملك معجل فان لنا ملكا مؤجل، وليس من بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة، ويقول الله عزوجل :( والعاقبة للمتقين). فأمر به هشام الى الحبس.
فلما صار في الحبس تكلم، فلم يبق في الحبس رجلا إلاّ ترشفه وحن عليه فجاء صاحب الى السجن الى هشام، واخبره بخبره، فأمر به فحمل على البريد، هو واصحابه(ليردوا الى المدينة). واذا كانت رواية تؤكد ان اطلاق سراح الامام عليه السلام من السجن الاموي كان بسبب تاثيره بالسجناء الذين التقى بهم، فان رواية محمد بن جرير الطبري في دلائل الامامة، تفيد ان اطلاق سراحه انما جاء بسبب تأثيره على جماهير دمشق على اثر مناظراته لزعيم النصارى هناك ودحض ارائه، وتبيان زيفه، والرد على كل الشبهات التي اثارها حول الإسلام، على انه ليس هناك من تعارض من الروايتين اذ لا مانع من وقوع الحادثتين معا فان الامام عليه السلام انما يتبع الهدى والحق اينما حل، طليقا كان هو ام معتقل، ما دام هناك أنسان يلقي السمع وهو شهيد.
واذا لم تحقق المضايقة الاموية غاياتها الدنيئة في صد الامام الباقر عليه السلام عن النهوض بمهامه الرسالية العظمى، فقد رأت السياسة المنحرفة انه ليس عن اغتياله بديل...
وهكذا دُسَّ له السُم في عام 114 هـ.
فسلام عليه يوم ولد ويوم رحل الى ربه ويوم يبعث حيا.