البث المباشر

الإمام الحسين بن علي ـ عليه السَّلام ـ حياته وسيرته بعد وفاة الرسول

الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 18:23 بتوقيت طهران
الإمام الحسين بن علي ـ عليه السَّلام ـ حياته وسيرته بعد وفاة الرسول

وبعد الرسول - حيث ازدحمت الحوادث واختلفت النعرات - نراه يقف جنباً إلى جنب مع والده العظيم في قضية الحق ويعلنها في أوضح برهان.

ومرة أخرى نلتقي بالحسين عليه السلام وهو شاب يمثل شمائل أبيه المهيبة، ويقود الجيوش المزمجرة ضد طاغية الشام معاوية بن أبي سفيان.

وتتم على مضاء عزمه، ومضاء سيفه، وسداد فكره، وسداد خططه انتصارات باهرة ضد الطغيان الأموي الذي أراد أن يرجع بالأمة الإسلامية إلى جاهليتها الأولى، وقد فعل. .. ثم تُدَبَّرُ مؤامرة لئيمة لاغتيال الإمام علي عليه السلام وينتهي الأمر بمصرعه الفاجع، وتلقي الأمة بأبهض مسؤولياتها وأخطرها على كاهل الإمام الحسن عليه السلام فيمارس الإمام الحسين جهاده المقدس في أداء أمانة الحق، ومسؤولية الأمة، ويحرض الشعب الإسلامي ضدَّ الباطل المحتشدة كل قواه في عرصات الشام، ويحذره من كل ما يُرتقب من مآسي وويلات على يد الطاغية إن تمَّ له الأمر.

وينتهي دور الإمام الحسن فيُقتل بسمّ يدسه إليه طاغية الشام. فتقع دفة الخلافة الإلهية بيد الحسين عليه السلام ويتابعه المسلمون الواقعيون الذين لم يشاهدوا في بني أمية إلاّ مُلكاً عضوضاً كلُّ همّه القضاء على مقدسات الأمة ومشاعرها في آن واحد.

نعم، انتقلت الإمامة إلى رحاب الحسين عليه السلام في أوائل السنة الخمسين من الهجرة النبوية، ولنلقي نظرة خاطفة على الوضع السائد في البلاد الإسلامية آنذاك. في السنة الواحد والخمسين: حج معاوية إلى بيت اللـه الحرام ليرى من قريب الوضع السياسي في مركز الحركة المناوئة لخلافته، حيث إن الحرمين كانا مقرا الصحابة والمهاجرين، وهم أبغض خلق اللـه لمعاوية لأنهم أشدهم خلافاً عليه.

فلما طاف بالبلاد المقدسة عرف أن الأنصار - بصورة خاصة - يبغضونه ويكرهون خلافته على أشد ما تكون الكراهية والبغض. وذات يوم سأل الملأ حوله: ما بال الأنصار لم يستقبلوني؟ فأجابه طائفة من زبانيته: إنهم لايملكون من الإبل ما يستطيعون استقبالك عليها. وكان معاوية يعرف الحقيقة من برودة تلقي الأنصار مجيئه، فحينما سمع هذا الجواب الروتيني لمز وغمز وقال: ما فعلت النواضح - أراد الاستهزاء بساحة الأنصار، بأنهم كانوا ذات يوم من عمال اليهود في المدينة، أصحاب إبل تنضح الماء لبساتين اليهود، وكان في الحاضرين بعض زعماء الأنصار فأجابه - وهو قيس بن سعد بن عبادة - قائلاً: أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول اللـه حيث ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر اللـه وأنتم كارهون.

اما إن رسول اللـه عهد إلينا أنّا سنلقي بعده أثرة. ثم جاش صدر قيس فاندلعت منه شرارة فيها ذكريات الماضي الزاهر، وعواصف هذا اليوم الأسود، فقال وأمعن في إيضاح سوابق بني أمية ولواحقهم، وشرح ما كان من وقوفهم ضد الدعوة النبوية - أول يوم - وما كان من إنكارهم حق عليّ عليه السلام بعد ذلك، وما كان من أمر معاوية - بالذات - مع إمام زمانه، وما جاء عن لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الأحاديث بشأن علي، الذي افترضه معاوية مناوئه الوحيد على كرسي الحكم. ولم يدر قيس ذلك اليوم ما الذي كان يحمله معاوية من بغض وكره - سوف يحدوان به إلى مالا تحمد عواقبه.

ورجع معاوية يفكر في إجراء التدابير اللازمة ضد مناوآت الأنصار والمهاجرين. وأول خطة اتخذها هي التي سوف يُتلى عليك تفصيلها. وعرف معاوية أن في البلاد الإسلامية كثرة واعية من المفكرين الذين محضوا عن تجارب الماضي القريب، ولمسوا حقيقة أمر الحزب الأموي الحاكم، كما آمنوا بقداسة الحق، وبوجوب متابعته، والدفاع عن نواميسه السامية مهما كلفهم الأمر. وعرف كذلك أنه يستقر في مركز حركة هؤلاء الذين ناوؤه، عليّاً أولاً والحسن ثانياً، وهذا الإمام ثالثاً.

ثم عرف أيضاً ما لهذا البيت العلوي من دعائم وطيدة، ومؤهلات كافية تنذر عرش الأمويين بالفناء العاجل. فمن هنا بدأت خطته اللئيمة، ففكر في أن من يحب عليّاً وآل عليّ لا شك في أنه يستاء من مُلك بني أمية. إذاً فلنقلع حب الإمام أولاً من صدور الشعب المسلم، ولنستأصل مقاييس المسلمين التي يميزون بها الحق عن الباطل، الا وهي تمثل الإسلام الحق في بيت الرسالة.

فأخذ يكتب إلى كل وال له في أطراف البلاد برسالة: أما بعد، انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليّاً وأهل بيته فأمحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. ولا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

وهذه أول محنة واجهها أنصار عليّ الذين كانوا يشكلون الجبهة المناوئة للحزب الأموي الحاكم. وقد كانت جبهةً شديدةً عنيفةً جدّاً. ثم راح معاوية في ظلمه يخطو خطوة أخرى - أقسى من الأولى وأعنف كثيراً - فكتب إلى ولاته يقول: أما بعد، خذوهم على الظنة، واقتلوهم على التهمة. ففكِّروا في هذه الكلمة: ( اقتلوهم على التهمة ) فهل تعرفون أقسى منها في قاموس المجرمين وأعنف حكماً؟! في مثل هذا الجو الرهيب كان يعيش الإمام الحسين عليه السلام وهو يتقلد منصب الخلافة الإلهية. ولا شك في أنه كان يؤلمه الشوك في طريق أصحاب الحق على الظنة، وإبادتهم بالتهمة.

ولكنَّ الظروف التي كان يعيشها لم تكن بالتي تجيز له المقاومة المسلحة ضد العدوان الأموي الأرعن؛ لأن معاوية كان يعالج الأمر بالمكر والخدعة، ويخدّر أعصاب الأمة بالأموال الطائلة من ثروة الدولة التي إن لم تُعط الفائدة فهناك شيء كان يسميه بجنود العسل، ويقصد به الغدر بحياة الشخصيات عن طريق السم يدسه في مطعمه أو مشربه، كما فعل ذلك بالإمام الحسن عليه السلام بواسطة زوجته الغادرة، وكان يستعمله دائماً ضدّ أولئك العظماء الذين لايخضعون لسلطان المال والمنصب. إما إذا استعصى عليه الإغراء بالمال أو القضاء بالسم، فيأتي دور القوَّة التي كان يستعملها بدون رحمة في مناسبة وغير مناسبة.

وبهذه الوسيلة الأخيرة قضى على الصحابي الكبير والزعيم الشيعي القدير: حِجْر بن عدي، حيث استدعاه هو وأصحابه إلى الشام، وقبل أن يصلوا إلى العاصمة أرسل سرية من شرطته فقتلت بعضهم ودفنت بعضهم أحياءً بغير جرم إلاّ أنهم كانوا أصحاب عليّ عليه السلام وقواد جيشه.

وكان مقتل حجر هذا منبِّهاً فعّالاً، للشعب الإسلامي الذي دعا إلى إعلان التمرد، حتى من بعض أصحاب الأمويين كوالي خراسان ربيع بن زياد الحارثي، حيث جاء المسجد ونادى بالناس ليجتمعوا، فلما اكتمل اجتماعهم قام خطيباً وذكر المأساة بالتفصيل وقال: إن كان في المسلمين من حمية شيء لوجب عليهم أن يطالبوا بدم حِجْر الشهيد. وحتى من مثل عائشة التي كانت بالأمس في الصف المخالف لعلي عليه السلام فإنها لما سمعت الفاجعة قالت: أما واللـه لقد كان لجمجمة العرب عز ومنعة، ثم أنشدت:ذهب الذين يعاش في أكنافهم

و بقيت في خلف كجلد الأجرِب

ومشت في الأوساط السياسية رجة تبعتها اضطرابات جعلت معاوية يندم من سوء فعله لأول مرة.
ولكن لم يكن مقتل حِجْر بالوحيد من نوعه، فقد رافقه مقتل الصحابي الكبير المعترف به لدى سائر المسلمين عمرو بن الحمق، الذي حُمل رأسه على الرمح لأول مرة في تاريخ الإسلام، حيث لم يُحمل فيه قبل ذلك اليوم رأس مسلم قط. وتبع حادثة حِجْر وأصحابه الستة عشر حوادث مرعبة نشرت على دنيا المسلمين التوتر والإضطراب.
ويمكننا أن نكشف عن بعض مظاهر هذا التوتر بما يلي:
لقد سيطر زياد ابن أبيه على الكوفة والبصرة، ولقد كان متشيعاً قبل أن يُلحقه معاوية بنسبه، فكان يعرف أسرار الشيعة وخباياهم وزعماءهم وقادتهم. فلما استتب له الأمر راحَ يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ويمعن فيهم القتل والتنكيل حتى ليَقول الرجل: أنا كافر لا أؤمن بنبيّ خير له من أن يقول: إني شيعي أؤمن بقداسة الحق وأكفر بالجبت والطاغوت. فلما ضبط العراقيين إرهاب بني أمية رفع زياد كتاباً إلى البلاط الملكي هذا نصه بالحرف:
إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة. فولني الحجاز أشغل يميني به..
ولما أذيع نبأ هذه الرسالة في المدينة المنورة اجتمع المسلمون في المسجد النبوي وابتهلوا إلى اللـه ضارعين: اللـهم اكفنا يمين زياد.
وإذا سألت عن موقف السبط، فنحن لا يهمنا من هذا الاستعراض الخاطف للأوضاع السياسية في عهد معاوية إلاّ لنعرف موقف الإمام الحسين عليه السلام منها. ونستطيع أن نلمس موقفه بصورة إجمالية، إذا مضينا نفكر في هذه القضايا الثلاث،التي سنتلوها تباعاً.
1- كانت الأنباء تتوالى على المدينة بنكبات فجيعة، نزلت على رؤوس المسلمين بسبب مدحهم للإمام علي عليه السلام وبسبب تشيُّعهم لأهل البيت عليه السلام تماماً بعد إعلان معاوية حكمه الصارم: كل من نقل فضيلة عن علي فَقَدَ الأمان على نفسه وماله! وكان ذلك في مستهل السنة الواحدة والخمسين بعد الهجرة النبوية. فدبر الإمام خطة جريئة نفذها بنفسه، فجمع الناس في محفل ضم من بني هاشم رجالاً ونساءً ومن أصحاب رسول اللـه، ومن شيعته أكثر من سبعمائة رجل، ومن التابعين أكثر من مائتين، فقام فيهم خطيباً فحمد اللـه وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد، فإن هذا الطاغية ( يعني معاوية بن أبي سفيان ) قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد علمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدَقت فصدِّقوني، وإن كذَبت فكذِّبوني، وأسألكم بحق اللـه عليكم وحق رسول اللـه وقرابتي من نبيكم لما سترتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم مَن أمنتم من الناس. إسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر، ويذهب الحق ويُغلب {وَاللـه مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (الصَّف/8) ثم مضى الإمام في الخطبة القوية الهادرة، يذكِّر الجمع بعليّ عليه السلام، وفي كل مقطوعة يصبر هنيئة فيستشهد الأصحاب والتابعين على ذلك، وهم لايزيدون على اعترافهم قائلين: اللـهم نعم.. اللـهم نعم. حتى ما ترك شيئاً مما أنزل اللـه فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسره، ولا شيئاً مما قاله الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أبيــه وأخيــه وأمّه ونفسه وأهل بيته، إلاّ رواه، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللـهم نعم. لقد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللـهم قد حدثني به من أصدِّقه وائتمِنه من الصحابة. أما وقد أشهدوا اللـه على ذلك قال: " أنشدكم اللـه إلاّ حدثتم به من تثقون به وبدينه... ". وكانت هذه خطة مناسبة للحدّ من طغيان معاوية في سب علي عليه السلام، بل كانت خطة معاوية لسياسة بني أمية قاطبة الذين ارتأوا محو سطور في التاريخ هي أسطع ما فيه وأروع ما يحتويه، ألا وهي مآثر أهل بيت الرسالة. ولم يكتف بنو أمية في محوها بالقوة فقط بل لعبت خزينة الدولة دوراً بعيداً في ذلك أيضاً. فقد كان الحديث يُشترى ويُباع كأي متاع آخر، وكان المحدِّثون أوسع الناس ثروة أو أنكاهم نقمة. إن رضوا فلهم كل شيء، وإن أبوا فعليهم كل شيء. ربما كان معاوية وهو الداهية المعروف ينتظر من الإمام الحسين ذلك الاستنكار البالغ، بيد أنه لم يكن يفكّر في أن الأمر سوف يدبّر على هذا الشكل المرعب، وعلى أي حال فقد كان الأمر مرتقباً. ولكن حدث بعد هذا التظاهر الصارخ أمر لم يكن معاوية يحلم به أبداً:
2- إن عيراً لوالي اليمن كانت محملة بأنواع الأمتعة إلى البلاط الملكي لتوزع على أصحاب الضمائر المستأجرة. ومرَّت هذه العير بالمدينة فاستولى عليها الإمام عليه السلام وامتلكها حقّاً شرعيّاً له، ليصرفه في مواقعه اللازمة. وكتب إلى معاوية رسالة أرغمت أنفه وأطارت لبه وهذا نص الرسالة:
" من الحسين بن علي..إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد فإن عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً إليك لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد نهل ببني أبيك، وإني احتجت إليها وأخذتها والسلام.. ". وأول ما لفت نظر معاوية من هذه الرسالة تقديم الإمام الحسين عليه السلام اسمه واسم أبيه على ذكر معاوية، ثم دعاؤه له باسمه الشخصي دون أن يشفعه بلقب " أمير المؤمنين " ويعتبر ذلك - في منطق القرون الأولى - تحدياً بليغاً لسلطة معاوية، بل يؤكد هذا في أن الكاتب قد خلع عن نفسه الرضوخ لسلطان الدولة الباطلة. ثم جلب انتباهه موضوع أخذ اليد، وفيه أبلغ دليل على التمرد على السلطة الحاكمة.

بيد أن معاوية بدهائه عرف أن الظروف لا تقتضي إلاّ الإغماض عن أمثال هذه الأعمال، ولم يكن الإمام عليه السلام يريد أن يبتدئ بإعلان التمرد المسلح لأنه كان حريصاً على حفظ دماء المسلمين كحرصه على نشر الحقيقة. فكتب إليه معاوية في منطق مستعتب وبيّن أنه عارف بمكانته، وجليل شأنه، وانه لايريد أن يمس ساحته بسوء، بيد أن خلفه من بعده سوف يكون له بالمرصاد. ومضى الحسين عليه السلام في توطيد دعائم الحقيقة، ببث الوعي، وجمع الأنصار، ولازالت الأنباء تتوارد على البلاط الملكي بشأن الإمام، وأنه يعد العدة لثورة فاصلة.

بيد أن معاوية كاد يتم الأمر بالخدعة قبل أن يدبر النقمة لعدم مؤاتاة الظروف للساعة المرتقبة، فكتب رسالة أخرى إلى الإمام يستعتب ويؤنب، ويذكّر بالصلات الودية بينه وبين الإمام عليه السلام. ولكن الإمام الحسين عليه السلام كان يعلم بالفجائع التي كانت تنقضّ على رؤوس الشيعة من محبي آل الرسول في كل بلد.
3- فكتب إليه برسالة أخرى يسرد فيها أعماله واحداً تلو الآخر. ".. أما بعد فقد بلغني كتاب تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عنك جدير، وان الحسنات لايهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ اللـه تعالى. وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني، فإنه إنما رقَّاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الجمع، وكذب المعادون، ما أردت حرباً ولا عليك خلافاً.

وإني لأخشى اللـه في ترك ذلك منك ومن الإعذار فيه إليك، وإلى أوليائك القاسطين الملحدين - حزب الظلمة - وأولياء الشياطين. ألست قاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلِّين العابدين، كانوا ينكرون ويستفضعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في اللـه لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة جرأة على اللـه واستخفافاً بعهده. أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللـه صلى الله عليه و آله و سلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفــر لـونــه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمه الموصم لزلت قدمُه من رؤوس الجبال؟ أولست بمدَّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول اللـه صلى الله عليه و آله و سلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنَّة رسول اللـه صلى الله عليه و آله و سلم تعمداً، وتبعت هواك بغير هدىً من اللـه. ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمِّل أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة، وليسو منك؟ أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد انه على دين علي صلوات اللـه عليه، فكتبت إليه: أن اقتلْ كلَّ من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم؟. ". إلى آخر الكتاب الذي كان سوط عذاب يُلهب متن معاوية ومن دار في فلكه من المنحرفين. وهكذا عاش الإمام عليه السلام الصوت الوحيد الذي غدا يرعد أمام كل بدعة، والسوط الفارع الذي بات يسوِّي كل تخلف أو تطرف في المجتمع، فلطالما حرض ذوي الفكر والجاه، وأثارهم على حكومة الضالين، بيد أنهم فضلوا مصالح أنفسهم على مصالح الدين، ولم يحفظوا ذممهم، في حين راحت ذمة الإسلام ضحية كل فاجر.

ولطالما خاطر الإمام الحسين عليه السلام بوقوفه أمام اعتداءات بني أمية على مصلحة الأمة الإسلامية، وعلى مقدسات الدين ونواميسه. والواقع أننا لو أردنا أن نتصور الوضع الديني في عصر الإمام خالياً عنه وعن جهاده، لكنَّا نراه أحلك عصر مرّ به المسلمون، وأقساه وأعنفه. ولو كنَّا نتصور الإسلام وقد مرّ به ذلك العصر بدون أبي عبد الله عليه السلام لكنَّا نراه أضعف دين وأقربه إلى الإنحراف. فلم يكن هناك من قوة تستطيع الوقوف أمام المد الأموي الأسود، إلاّ شخص أبي عبد اللـه عليه السلام ومن دار في أفقه من الأنصار والمهاجرين، لأن الحروب التي سبقت عصر الإمام أعلنت عن تجارب سيئة جدّاً، واختبارات فظيعة لقوى الخير في المسلمين، وما كان من شتيتها موجوداً لفّته زوابع الترهيب، وأعاصير الترغيب، فراحت مع التي راحت أولاً.

وبقي المحامي والنصير الأول والأخير للإسلام، وهو الإمام الحسين عليه السلام الذي استطاع بسداد رأيه، ومضاء عزمه، وسبق قدمه، وسمو حسبه ونسبه، وما كان له من مؤهلات ورثها من جده رسول اللـه وأبيه علي أمير المؤمنين صلوات اللـه عليهما استطاع بكل ذلك أن يشكل جبهة قوية نسبيّاً أمام الطغيان الأموي الوسيع. وكان ذلك شأنه في عصري معاوية ويزيد.

المصدر:

من كتاب"الامام الحسين، قدوة وأسوة " تأليف: العلامة المدرسي

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة