البث المباشر

بين الحسين عليه السلام والأمة

الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 18:22 بتوقيت طهران
بين الحسين عليه السلام والأمة

يبرز دائماً إلى أذهان كثير من الناس سؤال حول عدم تمكن الحسين عليه السلام من الإطاحة بحكم الطاغوت يزيد وتغيير الحالة الخارجية التي كانت عليها الأمة في تلك الفترة من الزمن.

ومن هنا قد يشكك أحد في مصداقية ثورة الحسين وكونها ثورة من أجل تغيير الوضع السيئ الذي كانت تعيشه الأمة وسبب ما فرض عليها من حكم طاغوتي من قبل بني أمية.

ومن أجل الإجابة على مثل هذا التساؤل ودفع هذا التشكيك ينبغي لنا أن ندرس أولاً مقومات الثورة الناجحة وشروط النجاح ثم بعد ذلك نحاول تطبيق تلك الشروط ثانياً على ثورة أبي الأحرار الحسين "ع" لنرى هل أن تلك الشروط كانت متوفرة فيها أم لا.

وقبل ذلك ينبغي الالتفات إلى أن ما نعتقده نحن كمسلمين أن الحسين عليه السلام لا يتحمل أي مسؤولية في عدم تحقق هذا الهدف خارجاً وإنما تقع المسؤولية على الأمة نفسها إلا أنه مع ذلك درئاً لمثل هذا التشكيك نطرح هذا التساؤل وهو هل يتحمل الحسين عليه السلام بنفسه مسؤولية عدم الإطاحة بحكم يزيد والوصول إلى السلطة أو لا؟ ومع كون الإجابة بالنفي فلا مسؤولية على الحسين فإذاً ما هي عوامل الضعف في الأمة التي أدت لهذه النهاية المأساوية وأدت إلى عدم تحقيق الهدف على يد الحسين عليه السلام ويتضح الجواب من خلال دراسة الأمرين الذين ذكرناهما: 

الأول: مقومات الثورة الناجحة وشروط نجاحها.

الثاني: توفر هذه الشروط في ثورة الحسين عليه السلام.

 

الأمر الأول: مقومات الثورة الناجحة

الظاهر أن الشروط الأساسية المعتبرة في نجاح كل ثورة من منظور إسلامي خمسة شروط: 

أولها: البعد الإلهي للثورة

بمعنى أن يكون لهذه الحركة التغيـيرية ارتباطا بالله سبحانه وأهمية ذلك واضحة لكونها الهدف الأساس لكل عمل تغييري في المنظور الإسلامي مضافاً لما يعطي للثورة من بعدٍ روحي وقداسة في نفوس الناس كما نرى ذلك في جميع حركات الأنبياء الإصلاحية. 

ثانيها: البعد الإنساني فيها

بمعنى أن تكون مهتمة بالنواحي الفطرية التي فطر الإنسان عليها من قبل الله سبحانه وتعالى لأنها تعتبر أمراً ثابتاً في حياة الإنسان وتبقى معه في كل التأريخ وفي مختلف الظروف التي يمر بها. فالبعد الإنساني لكل حركة إصلاحية يمكن معرفته من دراسة حركة الأنبياء حيث نلاحظ وجود خصوصيتين فيها:

الأولى: مقارعة الظلم ورفضه والدعوة إلى الحق والعدل وتحقيق الطمأنينة والاستقرار. الثانية: كرامة الإنسان وعزته وحريته الحقيقية والكمالات التي تجسد طموحه وآماله وتطلعاته في الحياة. وقد ا هتم مثلاً نبينا محمد صلى الله عليه وآله بهذا الجانب الإنساني في حديثه لرفض الأصنام والوثنية والأوهام والخرافات والتقليد، وكذا عندما تحدث عن تقسيم العلاقات القبلية والاجتماعية ورفض الظلم الذي كان يمارسه الطغاة تجاه الناس، وعمل أيضاً على تحرير الإنسان من الشهوات، ودعاه إلى العزة والكرامة الإنسانية، والمساواة بين الناس، إلى غير ذلك من المعاني الإنسانية السامية، وقبل كل هذا، الدعوة إلى عبادة الله عز وجل وتوحيده التي تقود الإنسان إلى الكمالات.

ثم إن هذا البعد كما يستدعي الاهتمام بالنواحي الفطرية الأساسية للإنسان يستدعي الاهتمام بواقع الأمة الحياتي، والتأثير فيه وتحريكه من خلال القضايا الحسية المعاشة للسير في طريق التكامل فلابد من تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله ليتمحض في العبودية لله وإلا لن يكون منه ذلك أبداً وكذا الإنسان الذليل المستسلم للظلم لا يمكنه مقاومة الظلم والطموح إلى الأفضل. فلابد إذن من تحرير الإنسان من عبودية الآخرين واخلاص العبودية لله، مضافاً إلى أن هذا البعد يمثل البعد الأخلاقي في المجتمع وهو يعبر عن الحاجات الأساسية في الحياة الإنسانية والتي بدونها تضطرب حياة الإنسان وتتحول إلى جحيم وظلام. 

ثالثها: البعد التخطيطي للثورة

فلا بد لنجاح كل ثورة من عقل يخطط لها تخطيطاً علمياً سليماً يتلائم والسنن التاريخية ويسير بها لتحقيق أهدافها المنشودة، أما لو لم تشتمل الثورة على ذلك فإنها لا تعدو كونها مجرد انفعالات عاطفية ومشاعر وأحاسيس نبيلة. وقد تكون مجرد ردة فعل وتمرد وانعكاس للواقع السيئ فليست عملية تغييرية بناءة تهدف إلى العدل والقسط والتكامل الإنساني .

رابعها: البعد العاطفي

وهو الجانب العاطفي الوجداني فيها فهو يمثل وقودها لأن مجرد الوعي والإدراك للواقع الفاسد وحده مع التخطيط وتشخيص الأهداف لا يحرك الإنسان نعم يهديه إلى الطريق الصحيح ويبين له الدرب لكن الذي يمنحه الاندفاع والقدرة على التحرك إنما هو الجانب الوجداني، ولذا تحتاج الثورة إلى الأهداف والشعارات والمفاهيم والتخطيط وتحتاج أيضاً الجانب الوجداني لتكون قادرة على الحركة والفاعلية وهو ينطلق دائماً من حب الإنسان لله سبحانه وتعالى وقد أشار له عز وجل في كتابه الكريم حيث قال : ـ " والذين آمنوا أشدّ حباً لله"(1)‏ ومن ثم حب كل ما يرضيه سبحانه ويرضي أوليائه الصالحين وحب المعاني الخيرة التي أودعها في الإنسان من عدل وإحسان وعزة وكرامة وحرية. 

خامسها: البعد الجماهيري

بحيث يكون لها وجود جماهيري وقاعدة شعبية في الأمة تتفاعل معها وتؤمن بمناهجها وشعاراتها وأهدافها فلا تكون في معزل عن فهم الجماهير ووعيها. ولذا تبتني كل حركة إصلاحية في أي مجتمع على تهيئة قاعدة جماهيرية وإعدادها فكرياً ومعنوياً حتّى يتحقق التفاعل على المنشود، وإلا لا يتحقق للمصلح القيادي التغيير المرجو. 

الأمر الثاني: توفر هذه الشروط في ثورة الحسين عليه السلام

بعد معرفة مقومات الثورة الناجحة والشروط المعتبرة فيها نحتاج إلى تطبيقها على النهضة المباركة لإمامنا الحسين عليه السلام فنقول: 
أما البعد الأول: فتحققه في ثورة الحسين عليه السلام مما لا شك فيه وليس مقصودنا من ذلك أن الحسين كان مرتبطاً بالله فحسب. وإنما نقصد بذلك أن التحرك بمجمله كان مرتبطاً بالأهداف الإلهية وأن القضية التي تحرك الإمام عليه السلام في إطارها كانت ترتبط بالله وبالإسلام. وإلا لا شك لأحد في ارتباط أبي عبد الله عليه السلام بالله لكونه إماماً معصوماً. فيتضح أن مرادنا من ذلك هو الإطار العام المطروح من قبل الحسين عليه السلام لحركته ونهضته والمفاهيم والشعارات والأهداف وتفاعل الناس مع هذا المنهج، وهذه الإطروحة من خلال شعاراتها وأهدافها.

ويستفاد ذلك من خلال ما جاء في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب. 
وأما البعد الثاني: فواضح من خلال كلمات الحسين عليه السلام وخطبه التأكيد على قضية رفض الظلم. فمن الشواهد على ذلك ما جرى بينه وبين أبي هرم حيث قال له: يا بن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم جدك؟ فقال: يا أبا هرم إن بني أمية شتموا عرضي فصبرت وأخذوا مالي فصبرت وطلبوا دمي فهربت وأيم الله ليقتلوني فيسلبهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً ويسلط عليهم من يذلهم حتّى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم.

فكان هذا الجانب الإنساني أحد الأبعاد والجوانب الإنسانية التي أكد عليها الحسين عليه السلام وجعلها أحد الأهداف والمحاور الرئيسية التي دعته للتحرك لأنه رأى الإذلال الذي أراد يزيد إلباسه الأمة والظلم الذي بسطه عليها. وقد أوضح الحسين عليه السلام هذا البعد في مواقف أخر من كلماته إذ قال: لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما. وقوله: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. 
وأما البعد الثالث: وهو من النقاط المهمة التي قد يغفل عنها حتّى أنه قد يتصور افتقاد حركة الحسين عليه السلام لهذا البعد اعتماداً على أن الحسين لما كان يعلم بمصيره وبتلك النهاية المأساوية المفجعة ومصير عياله من السبي فلم يكن مهتماً بمسألة التخطيط وبيان الهدف الذي من أجله قام بتلك النهضة.

إلا أن دراسة السيرة الحسينية تأبى هذا التصور وتمنع عنه إذ يلحظ المتتبع أن الحسين عليه السلام كان يخطط لهذا التحرك بشكل كامل كأنه شخص له القدرة على استلام الحكم من يزيد وإقامة الحكم الإسلامي. وقد دعى ذلك توهم بعض الكتاب أن الغاية التي كان ينشدها الحسين عليه السلام هي الوصول للسلطة والحكم. بل ذهب ببعضهم الوهم فتصور خطأ الحسين عليه السلام في معرفة الحقيقة وتشخيص طبيعة الأوضاع السياسية والواقعية.

هذا وللإجابة على هذين التوهمين وما جرى مجراهما مجال آخر. لكن ما أحب أن أشير له هنا هو ذكر بعض الشواهد المؤكدة على وجود عنصر التخطيط في النهضة الحسينية: منها: موقف الحسين عليه السلام من البيعة ليزيد لما طلب منه والي المدينة ذلك حيث كان الحسين مخططاً لإعلان رفض ذلك ولم يتخذ الأسلوب الذي اتخذه غيره وهذا يتضح من خلال اصطحابه لجماعة من بني هاشم وكلفهم البقاء خلف الباب فمتى ما ارتفع الصراخ اقتحموا الدار وأخرجوه فضلاً عن تخطيطه لكيفية الحديث مع الوالي بداية ونهاية.
ومنها: وصيته الواضحة لأخيه محمد بن الحنفية وقد نقلناها فيما سبق وهي لا تتضمن إلا شعارات النهضة وأهدافها والحديث عنها، والتزامه عليه السلام في طريقه إلى مكة سلوك الطريق العام ليعرف الناس جميعاً هذه الحقيقة وخالف في ذلك من نصحه بأخذ غير الطريق العام إخفاء لنفسه عن الأعداء. 
ومنها: ذهابه إلى مكة وبقائه فيها حتّى اليوم الثامن وخروجه في ذلك الوقت الذي ازدحمت فيه مكة بالحجيج فيلفت نظرهم بذلك 
ومنها: بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليهيئ له الأجواء ويمهد له الأرضية بتعبئة المسلمين وتنظيمهم وأخذ البيعة منهم ودراسة مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والروحية فيها وتعريف الناس مقاصد الثورة وأهدافها. 
ومنها: رسائله وكتبه التي أرسلها إلى مختلف الأقطار الإسلامية كالكوفة والبصرة واليمن وكانت تتضمن شرح أهدافه وأفكاره واستنهاض المسلمين. 
ومنها: إبقائه لأخيه محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر في المدينة ومكة وعدم اصطحابهم معه لشرح وتوضيح خلفيات الثورة وكونهم عيوناً يرصدون حركة الأعداء. 
ومنها: أخذه لعياله وأهل بيته إلى كربلاء وذلك لأمرين: 
الأول: عدم استخدامهم أداة ضغط على الحسين عليه السلام لاحتمال أن السلطة تقوم باعتقالهم بمجرد تحرك الحسين عليه السلام فتجعلهم رهائن تضغط بهم عليه فيكون موقفه محرجاً أمام نفسه والمسلمين لكونه قد ضيع عياله. 
الثاني: الدور الإعلامي البارز في متابعة مسيرة الحسين عليه السلام وبيان أهدافه وفضح النظام. 
وأما البعد الرابع: ووجوده في ثورة الحسين عليه السلام فلا يخفى على أي أحد، بل ربما طغى على جميع الأبعاد الأخرى وكان أوضحها بحيث أن أعداء الحسين عليه السلام وقاتليه يوم عاشوراء بكوا لحاله. 
وأما البعد الخامس: فالشاهد على وجوده هو كتب أهل الكوفة للحسين عليه السلام وهي وإن كانت كما ذكره بعض الباحثين كتباً تضليلية للحسين عليه السلام تتضمن نفاقاً. إلا أن ما لا يمكن إنكاره أنها كانت تعبر عن واقع موضوعي حاصل في المجتمع الإسلامي كله وتكشف عن مشاعر حقيقية لكل المسلمين أبرزها أهل الكوفة.

وعلى أي حال فهذه الكتب تمثل بعداً جماهيرياً لإحساس أهل الكوفة بالظلم والذل والآلام ويروون أن الحسين هو الأمل في الإنقاذ من هذا الوضع المأساوي. ويشهد لما ندعيه منهجية ابن زياد في الوقوف أمام هذا التيار الجماهيري حيث اعتمد فيه أسلوب القمع فعمد إلى اعتقال وجهائهم ورؤسائهم كالمختار الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي والأصبغ بن نباتة والحارث الهمداني. مضافاً إلى التخويف والتهديد بجيش الشام القادم، وأسلوب الإغراء ببذل الأموال واعطاء الوعود.

ولعل في كلمة الفرزدق عند لقائه بالحسين عليه السلام ما يؤكد ذلك لما سأله عن الناس فقال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. ومثل ذلك تجده في البصرة حيث يلاحظ تفاعل الجماهير مع هذه الحركة المباركة. إذن إن المتحصل من جميع ما تقدم هو استكمال نهضة الحسين عليه السلام للشروط التي ينبغي توفرها في كل ثورة لنجاحها مما يعني خلو الحسين عن المسؤولية. وعليه يتقرر أن المسؤولية إنما هي مسؤولية الأمة وهي تتحمل المسؤولية خصوصاً بعدما اتضح تهيئة الحسين عليه السلام لجميع الظروف الموضوعية اللازمة لنجاح الثورة وهذا يكشف عن وجود خلل في الأمة. والظاهر أنه يرجع أساساً للأوضاع الروحية والنفسية لها.

وهو ما أراد الإمام الحسين عليه السلام معالجته. حيث أن الأمة قد أصيبت بموت الضمير وفقد الإرادة ومتى كان ذلك في أي أمة فإنها لا تتمكن من تحقيق أهدافها والوصول لغاياتها فضلاً عن التحرك بشكل صحيح.
(1) سورة البقرة الآية رقم 165.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة