عن هذا الموضوع، يقول الفنان نفسه: «أتذكر تماماً ايام طفولتي وكان عمري آنذاك اربعة أعوام. كنت أجلس على الارض وأرسم نقوش السجاد على الورق، ما يعجب والدي ويبدي رضاه عن ذلك».
كان والد فرشجيان نقيباً لتجّار السجاد بأصفهان ويعكف على شراء وجمع أعمال قيمة رائعة. ولمّا شاهد الأب هذا النبوغ الغزير في إبنه، أخذ بيده الى ورشة عمل الأستاذ الحاج ميرزا آقا إمامي، حيث الرسوم واللوحات الفنية. ويتحدث فرشجيان عن ذلك بالقول: «في الورشة نفسها أعطاني الحاج ميرزا آقا إمامي رسم غزالة وطلب مني أن أرسمها، فقمت حتى الصباح برسم نحو ۲۰۰ صورة وشكل في مقاييس وأبعاد مختلفة؛ الأمر الذي جعل أستاذي لا يصدق ذلك، فأيدني كثيراً وحثني على المواصلة.
تتلمذ فرشتشيان على يد الاستاذ عيسى بهادري. وعندما كان فرشتشيان مراهقاً كانت أساليب التعليم تختلف عمّا هي عليه الآن. وكما يقول هو بهذا الصدد إن الاستاذ بهادري كان يحدّد لتلامذته نماذج من على قطع قاشانية بأصفهان ويقارن فيما بين الرسوم والنقوش الرئيسة وتلك التي رسمها التلاميذ، ويطلب منهم المقارنة بين النماذج التي فعلوها بأيديهم والنقوش الاصلية والكشف عن أخطائهم ومن ثمّ يطلعهم مباشرة على ما يجده من الأخطاء الناجمة عن عملهم.
فرشجيان وبعد أن أتمّ تتلمذه على يد الاستاذين إمامي وبهادري وكذلك تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة بأصفهان، سافر الى أروبا لتلقي دورة الفنون الجميلة لدى معهد الفنون الجميلة. وتفرّغ سنوات عدّة للدراسة والبحث في أعمال الفنانين الغربيين في المتاحف. وكان فرشتشيان، وكما يقول هو، أول من يدخل المتحف حاملاً معه رزمة من الكتب والأقلام، وفي نهاية المطاف، كان هو نفسه آخر شخص يخرج من هناك. ولم يكتف فرشتشيان بذلك بل حاول أن يدرس الفنون القديمة والمعاصرة في كل من اروبا واميركا بشكل كامل وأنس بالعصر العالمي للفن، غير أن الاستاذ مازال يحفظ وفاءه والتزامه التام تجاه الفن الايراني.
عند عودته الى ايران، بدأ فرشجيان عمله في الدائرة العامة للفنون الجميلة بطهران وتمّ تعيينه مديراً للدائرة الوطنية واستاذاً لكلية الفنون الجميلة بجامعة طهران.
يقيم محمود فرشجيان حالياً في ولاية نيوجرسي الاميركية ويزور بلاده ايران بين الفينة والأخرى. وبما أنّ الاستاذ يعيش خارج البلاد، إلا أنه، وكما يؤكده هو، لم يكن بعيداً عن أجواء وطنه، إذ أفسح هناك مجالاً لخلق أعماله الفنية. لأنّ زياراته لإيران وحضوره المؤتمرات والملتقيات المختلفة لا تتيح للأستاذ فرصة للرسم.
ميزات أعمال الاستاذ
إن ما يميّز أعمال الفنان فرشجيان عمّن سواه هو وجود حركات مدورة جذابة في رسوماته (المنمنمات). وجدير بالاشارة أن أعمال الاستاذ بهزاد الرسام العملاق في العهد التيموري والاستاذ سلطان محمد الرسام الكبير في الحكم الصفوي، هي من أولى نماذج الرسم والتي تمت على أساس بنى تحتية مدورة، بيد أن البروفيسور الينور اسميز يرى أن عملية التصوير المدوّر في منمنمات فرشتشيان اكثر حيوية، وأن ملامح الوجود والأغصان والأوراق والكائنات الأسطورية كلها تدور في فلك منتظم سريع كأنها تجري في دوامة، وهذه الرسوم والصور الدقيقة خلقت بدورها روائع فريدة في الفن وحتى في فن القاشاني وحياكة السجاد الايراني.
يعتقد فرشتشيان بأن فن الرسم الايراني، ضربٌ من الخيال يعود منشأه الى مخيلة الرسام وفكره وليس وجهة نظر عينية. في رسومات باقي البلدان والشعوب، والصين نموذجاً، نرى أن الرسام يبذل غاية جهده وطاقته وحنكته العالية في تقديم صورة رائعة عن الطبيعة، غير أن ما يميز هذا الرسام الأجنبي عن نظيره الايراني هو أن ريشة الفنان الايراني تربط أيما ارتباط بالروح اللاشعورية وغير إلارادية للإنسان وأحاسيسه ومشاعره المعنوية السامية. فنشهد في أعمال الأستاذ فرشتشيان هذه المشاعر الرقيقة والأحاسيس المعنوية السامية. إذ نراه يرسم بريشته الفنية هكذا مشاعر وحالات تنبع عن خلجانات الإنسان وما يدور في خلده فضلاً عن أصوات وترانيم الطيور وهديل الحمامات وباقي الحيوانات وهطول الأمطار.
إن ديمومة الحياة واستمرارية الطبيعة تتجلّى واضحة في غالبية أعمال الفنان فرشتشيان.
في الحقيقة أنه يرسم بريشته المبدعة شوق الحياة والحنين إليها فضلاً عمّا فيها من الجماليّات والقباح والايجابيات والسلبيات.
نظرة على عدد من أعمال الفنان فرشجيان
نشرت معظم أعمال محمود فرشجيان في عدّة مجلّدات قيمة ورائعة جداً إضافة الى طبع لوحاته ورسوماته على أغلفة الكتب والإصدارات وبطاقات إهداء جميلة. يذكر أن ثلاثة من مجلدات أعمال الأستاذ، تمّ إصدارها ضمن «الأعمال المختارة من قبل منظمة اليونسكو». وفيما يلي نذكر مجموعة من روائع الأستاذ الفنية:
لوحة«ضامن الغزالة»
فيما يتعلق بطريقة رسم شخصية الإمام الثامن علي بن موسي الرضا (ع) في عمله المعنون بهذا الاسم (ضامن الغزالة) يقول الأستاذ فرشتشيان: «في بادىء الأمر، أردت أن أرسم شخصية الامام (ع) من جهة الخلف، إلا أنّ الظروف الخاصة السائدة على لوحة الرسم جعلتني أرسم إلامام من الأمام.
ولمّا وصلت ريشتي إلى سيماء الإمام، لم أكن أقدر على مواصلة العمل هذا كما كنت أتوقع. فبقيت الصورة النورانية للمولا الرضا (ع) على حالها ساعات وأياماً. في عصر أحد الأيام توضأت كعادة قبل البدء بالرسم، ووقفت باتجاه مدينة مشهد المقدسة وبدأت بقراءة زيارة الإمام الخاصة ومن ثمّ أمسكت بيدي الريشه واستأنفت عمل الرسم. أجل، رسمت الصورة المقدسة، وذلك بدون أي تغيير أو حركة في القلم أو الرسم نفسه.
وعندما أنهيت العمل لم أغيّر أي شيء فيه». ويضيف الأستاذ حول السمة البارزة في هذا العمل موضحاً: «إن جميع المكونات المؤسسة للوحة» ضامن الغزالة وكل الخطوط والأشكال والشخصيات المجتمعة فيها، ينبع وجودها عن شخصية الإمام الرضا ووجوده المبارك(ع) فضلاً عن أنّ جميع المناحي والحركات المرسومة تنتهي إلى الإمام (ع). كما أن شخصية الامام تحتل الصدارة والريادة في اللوحة لوناً وشكلاً وترتيباً، وباقي العناصر والمكونات تستظل بوجود الإمام وتستقر دونه. هذا ونرى مسحة من البهجة والسرور على وجوه صغار الغزلان التي تتشرف لزيارة الإمام (ع) وفي حالة أداء الإحترام والتكريم؛ وهذا الإحترام يتمثل جلياً في الإنحناء بين يدي الإمام الرضا (ع)».
لوحة «اليوم الخامس للخلق»
في هذه اللوحة نرى جميع الكائنات والمخلوقات السماوية والأرضية وهي تسبح لله سبحانه وتعالى. وإن الأسماك والطيور الحقيقية والخيالية كلّها تتحرك؛ وهي عائمة وطائرة في بحار هائجة وسماء ملبدة بالغيوم.
لوحة «عصر عاشوراء»
بشأن عمله الخالد أي لوحة «عصر عاشوراء»، يتحدث الأستاذ قائلاً: «قبل انتصار الثورة إلاسلامية بثلاثة أعوام؛ نصحتني والدتي في يوم عاشوراء قائلة: إستمع إلى ذكر المصيبة الحسينية حتى تنتفع منها، فخاطبتها بالقول: سأذهب إلى المجلس الحسيني فيما بعد؛ لأني منشغلٌ الآن غمرتني حالة روحية عجيبة.
أخذت القلم وبدأت بالرسم والنتيجة صارت هذه اللوحة التي بين أيدينا بدون أيّ تغيير فيها.
رسم ضريحي الإمام الحسين والإمام الرضا عليهما السلام
استغرق هذين العملين الفنيين العظيمين، والذي قام الأستاذ برسمهما فخرياً، عدة سنوات، وبقي الضريحين ومازالا تذكاراً خالداً مباركاً في خزانة تاريخ الحضارة والثقافة والفن الاسلامي.