البث المباشر

الخانات ... ذاكرة الطريق وروح الهوية الإيرانية

الثلاثاء 15 يوليو 2025 - 14:07 بتوقيت طهران
الخانات ... ذاكرة الطريق وروح الهوية الإيرانية

تُجسّد الخانات التاريخية في إيران معالمَ حضارية لا تزال صامدة في وجه النسيان، وتُعدّ من الكنوز المعمارية التي تحتضن بين جدرانها عراقة الماضي وروح الأصالة.

هذه الأبنية، التي بُنيت على امتداد الطرق القديمة لتكون محطات للراحة والأمان، ما تزال تملك من الإمكانيات ما يؤهلها للعودة إلى واجهة التنمية السياحية، لاسيما في سياحة الطرق البرية، عبر مشاريع الترميم والتوظيف الحضاري المعاصر.

في السياق التاريخي، يشير مصطلح "خان" أو "كاروانسرا" إلى نزُل القوافل التي شيّدت خصيصًا لتوفير الراحة للمسافرين، وقد جرى تصميمها بفناءات واسعة لتلبية احتياجاتهم. تعود الكلمة إلى جذور بهلوية، حيث تتكوّن من "كاروان" وتعني القافلة، و"سراي" بمعنى المنزل أو المأوى.

العصر الصفوي.. ازدهار البناء وإحياء طريق الحرير
شهدت الخانات ازدهاراً غير مسبوق في العصر الصفوي، ولا سيما في عهد الشاه عباس الصفوي، الذي سعى إلى إحياء طريق الحرير وتوسيع شبكة التجارة. ومن أبرز الخانات التي أُنشئت آنذاك، خان الشاه عباسي في كرج، والذي بُني في عهد الشاه سليمان الصفوي بين عامي 1078 و1109 هجري قمري.

عمقٌ تاريخي وجذورٌ حضارية
حاجة الإنسان إلى المأوى والأمن خلال السفر قديمة قدم التاريخ، وقد شيّد الإيرانيون منذ العصور السحيقة محطات استراحة تُعدّ تحفًا معمارية بديعة. ويُشير المؤرخ اليوناني هيرودوت إلى وجود أكثر من مئة خان (شابارخانه) أُنشئت في عهد الأخمينيين، فيما واصلت الدولة الساسانية الاهتمام بالطرق وتأمينها عبر إنشاء خانات استراتيجية على طريق الحرير، مثل خان دروازه كچ وخان ديرگچين ورباط أنوشيرواني.

جغرافيا التجارة والتواصل الحضاري
إيران، بموقعها الاستراتيجي على تقاطع قارات آسيا وأوروبا، شكّلت همزة وصل تاريخية ضمن شبكة التجارة العالمية. لذا، لم تكن الخانات مجرّد محطات عبور، بل جزءًا من منظومة التكامل الحضاري والاقتصادي، ما يُفسّر إدراج 45 خانًا إيرانيًا حتى الآن ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

محافظة مركزي .. إرثٌ معماري متنوع
تضم محافظة مركزي 23 خاناً تاريخياً، أُدرج منها 12 في قائمة التراث الوطني. ومن أبرزها: خانات دودَهك، مجد الممالك، عبد الغفار خان، وباغ شيخ، بالإضافة إلى خانات شاه عباسي، مشهد ميقان، ورده ساوه، جون آباد محلات، وبنغان ساوه. وقد شكّلت هذه الخانات محطات رئيسية للتجار والمسافرين.

صرّح المدير العام للتراث الثقافي في المحافظة، محمود مرادي نراقي، أن ثمانية من هذه الخانات ذات ملكيات متعددة (خاصة، أوقاف، حكومية)، مؤكدًا أن استراتيجية وزارة التراث الثقافي تقوم على الحفاظ على هذه المنشآت ومنع تدهورها، مع الترحيب الكامل بالمستثمرين الراغبين في ترميمها وتوظيفها سياحيًا.

كما أشار إلى تخصيص مليار ريال كميزانية لترميم خان خانَك التاريخي في تفرش، أحد المعالم البارزة من العصر الصفوي، إضافة إلى عدد من الخانات الأخرى الواقعة على طرق رئيسية، مثل خان عبد الغفار خان في ساوه، وخان دودَهك قرب الطريق السريع بين قم ودليجان.

دعوة للترميم والاستثمار
من جانبه، أكد حسين محمودي، مساعد التراث الثقافي في المحافظة، أن 8 خانات ما زالت تُعتبر "خانات دائمة" يمكن إعادة إحيائها وتشغيلها. وتتوزع بين مدن فراهان، زرنديه، تفرش، دليجان وساوه، مشيرًا إلى أن معظمها مبني من الطوب، باستثناء واحدة بالحجر، وأن بعضها خضع لعمليات خصخصة أو تدار من قبل الأوقاف وصناديق الحفاظ على التراث.

غبار الإهمال يهدد الذاكرة المعمارية
الخبير الأثري عابد زنجاني حذّر من أن غبار النسيان الذي تراكم بسبب تغيّر الطرق ومسارات النقل الحديثة أدى إلى تهميش هذه الأبنية التاريخية، بل وتعريضها للتخريب على يد بعض الباحثين عن كنوز مزعومة. وشدّد على ضرورة تبني رؤية جديدة تُعيد لهذه الخانات دورها الثقافي والاقتصادي في السياحة، من خلال ترميمها وتحويلها إلى مراكز نشاط سياحي وثقافي.

الخانات ... من التراث إلى التنمية
يرى زنجاني أن ترميم هذه المنشآت لا يحفظها من الاندثار فحسب، بل يحوّلها إلى بؤر جذب سياحي واستثمار اقتصادي؛ فبإمكانها أن تستضيف مناسبات ثقافية، معارض، مهرجانات، وحتى حفلات موسيقية، ما يسهم في خلق فرص عمل وتحريك العجلة الاقتصادية.

وأشار إلى أن الإقامة في هذه الخانات التراثية تُمثل تجربة فريدة تربط الزائر بروح الحضارة الإيرانية العريقة، وتُضفي عليه شعورًا بالعزة الوطنية والانتماء التاريخي.

كلمة أخيرة
نظراً لاتساع مساحات الخانات وحجمها الكبير، فإن ترميمها وإعادة استخدامها يتطلبان تمويلاً لا تقدر عليه وزارة التراث الثقافي وحدها. لذا، فإن دعوة الخيرين والمستثمرين للمساهمة في هذا المشروع الوطني تُمثل خطوة ضرورية لحماية هذه الكنوز المعمارية، التي يُمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز السياحة البرية والاقتصاد المحلي، تمامًا كما كانت في عهد الأجداد.
 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة