إخوتنا المستمعين الأكارم في كلّ مكان !
سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات ، ومرحباً بكم في برنامجكم هذا الذي يقدّمه لحضراتكم القسم الثقافي والاجتماعي في إذاعة طهران ، صوت الجمهورية الإسلامية في إيران ، آملين أن تمضوا معنا عبر محطّاته أطيب الأوقات وأحلاها ، وأن تتواصلوا معنا من خلال ملاحظاتكم ومقترحاتكم وصولاً إلي الهدف المتوخّي منه ؛ وهو محاولـة تحقيق فهم أفضل لما يحفل به نهج البلاغة من أسرار وخفايا بلاغيّة وبيانيّة ، وتسليط الضوء علي الجوانب المعجِزة فيه ...
أحبّتنا المستمعين !
لاريب في أن نهج البلاغة بما يضمّ بين دفّتيه من خطب ورسائل ووصايا وكلمات قصار يعدّ بعد القرآن الكريم خير مصدر يستند إليه علماء البلاغة في تعزيز شواهدهم البلاغية ؛ فهو يشتمل كأحسنَ ما يكون الاشتمال علي الكثير من الصناعات البلاغية والبيانية والبديعيّة التي استقرأها علماء البلاغة في القرآن الكريم الذي يعتبر الآية الكبري في البلاغة و في كلام العرب عموماً شعراً كان أم نثراً .
وسنبدأ - إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات - بواحدة من أكثر الصناعات البلاغية استخداماً في نهج البلاغة علي وجه خاص وفي كلام العرب عموماً ، ألا وهي صنعة التشبيه بأنواعه وأقسامه واستعمالاته المختلفة ، هذه الصناعة التي يستعين بها المتكلّم من أجل تقريب المعاني والمفاهيم المختلفة إلي ذهن المتلقّي من خلال عقد مشاركة أو مماثلة بين شيئين أو أكثر في صفة أو أكثر من صفة ، فيتحصّل لدينا في هذه الحالة طرفان في التشبيه هما المشبَّه ( أي المعني الذي يريد المتكلّم إيصاله إلي السامع ) والمشبَّه به ( وهو الشيء الذي يستعين به المتكلّم بهدف تقريب المعني أو المفهوم إلي إدراك السامع ) .
وعلي هذا فإنّ التشبيه يعتبر وسيلة من الوسائل التعليميّة والتربويّة التي لا غني للإنسان عنها من أجل التواصل والارتباط مع الآخرين لغوياً شريطة أن يختار المتكلّم الأشياء المتوفّرة في محيط المستمع و التي يأنس إليها من أجل إتاحة الفرصة له لعقد المقارنة وإدراك المعني والمقصود بالتالي ، لاحظوا علي سبيل المثال كيف يستعين أمير المؤمنين سلام الله عليه بـ (عُرف الضَّبُع ) في تشبيه انثيال الناس وازدحامهم عليه وتحلّقهم حوله من كلّ جانب ، بهدف تنصيبه أميراً وخليفة لهم ، حيث يقول (ع) في خطبته الشقشقيّة في تصوير هذا المعني متوسّلاً بصنعة التشبيه :
فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وعرف الضّبع: ما كثر على عنق هذا الحيوان من الشعر علماً أنه يعتبر من حيوانات الصحراء التي تألفها العرب ، وعرف الضبع كثيف يضرب به المثل في الكثافة والازدحام. وينثالون: أي يتتابعون مزدحمين.. ثم إنّ الإمام عليه السلام قد أحسن اختيار هذا الجزء بالذات من الحيوان في تشبيه الازدحام والتكالب عليه ، فمن المعلوم أنّ عُرف الضبع ينمو عادة ويتكاثر حول عنقه ، فنجح الإمام بذلك في تصوير مدي الضيق و الإجهاد الذي حصل له عندما تدفّق الناس عليه كما تحيط الأشياء بعنق الإنسان فتسبّب له الضيق والحرج والشعور بعدم الارتياح حيث يعتبر العنق من أكثر أجزاء الجسم حسّاسيّة وضعفاً !
أعزّتنا المستمعين !
س۱- حول فنّ التشبيه باعتباره أحد الصناعات البلاغيّة وأنواعه وأقسامه ومدي أهميّته في العلوم البلاغيّة ، أجرينا اتصالاً هاتفياً مع الدكتورة دلال عباس الأستادة في الأدب المقارن الفارسي والعربي من جامعة بيروت:
س۲- وعن مدي حضور هذا الفن في نهج البلاغة ، وإلي أيّ حد عوّل فيه أمير المؤمنين عليه السلام عليه في إيصال مراميه إلي الأذهان ، مع ذكر بعض الأمثلة علي ذلك ، طرحنا سؤالاً آخر علي خبيرنا علي الهاتف ، فأجابت :
عباس: بسم الله الرحمن الرحيم بالنسبة الى فن التشبيه في اللغة العربية وفي الأدب العربي وفي علم البلاغة ممكن أن نتحدث قبل التشبيه في النص القرآني وفي النصوص الدينية وفي نهج البلاغة، يجب أن تتذكر التشبيه في الأدب الجاهلي أولاً، يعني عرف الشعراء العرب فن التشبيه في البداية من خلال الشعر الجاهلي. في الشعر الجاهلي كان الشاعر يشبه الأمور المجربة بالأمور الخصية بمعنى كأنه يريد الناس في ذلك العصر ولم يكونوا متعلمين وكانوا محدودي التكفير والعقل فكان الشاعر اذا كان يريد أن يتحدث عن أمر مجرب بعيد عن الأفهام يشبهه بشيء مادي يعني كتشبيه طرفة بن العبد للموت كأنه حبل مرخى بعنق الدابة، ومثل هذه التشابيه. التشيه كما قلت تشبيه مجرد بالمحسوس، في حين بالنسبة للنص القرآني مثلاً يعطي النص القرآني أعلى مستوى وبلاغة للأفهام حيث قالوا عنه إنه سحر وقالوا إنه أعلى من المستوى البلاغي الذي كانوا يعرفونه. النص القرآني ينفرد كلمة التشبيه وإنما وردت كلمة المسد، يعني في القرآن ليس تشبيه أمر بأمر آخر وإنما تشبيه حالة، يعني وصف حالة "مثل الذين آمنوا كمثل..." "مثل الذين كفروا كمثل..". يعني تشبيه حالة بحالة اخرى، يعني هذا التشبيه تمثيل. النص القرآني استخدم وصفة المثل على موضوع التشبيه. الامام علي عليه السلام وايضاً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه على نهج القرآن استخدم ايضاً التشبيه والاستعارة، التشبيه البليغ والاستعارة، خضراء الدمن عن النساء او عن المرأة. ايضاً الامام علي عليه السلام على نهج القرآن في نهج البلاغة استخدم التشبيه للتقريب، المقصود منه تقريب المعنى.
المحاورة: أيها الكرام وعن مدى حضور هذا الفن في نهج البلاغة والى حد عول فيه امير المؤمنين علي عليه السلام في إيصال مراميه الى الأذهان مع ذكر بعض الأمثلة على ذلك، طرحنا سؤالاً آخر على الدكتورة دلال عباس فأجابت قائلة:
عباس: في كل ماقاله الامام عليه السلام إعتمد على التشبيه لاسيما التشبيه البليغ لأنه عملياً لم يقصد البليغ عادة اوالفصيح، لايقصد التشبيه بحد ذاته وإنما يأتي تلقائياً يعني هو كجزء من بلاغة الكلام، جزء من البلاغة. لم يكن الامام وكما هو حال القرآن، في وارد استخدام الكلام لإيصال المعنى وإنما كان يأتي على لسانه على نمط القرآن، كان يأتي على لسانه تلقائياً لذلك ما أريد أن اقوله هنا هو أن الاستخدام هو لم يكن مقصوداً بأنه أنا في قرارة نفسي يعني الامام عليه السلام في قرارة نفسه يريد التشبيه لوصول المعنى للأذهان وإنما هذا الأسلوب كان يأتيه طواعية ولم يكن مقصوداً بحد ذاته، لم يكن مقصوداً كفن، كتزيين او كتجميل وإنما كان يأتي تلقائياً على نمط النص القرآني. يعني تأثراً بالنص القرآني لأن عادة هذا الأسلوب التشبيه ولاسيما التشبيه البليغ يقرب المعاني من الأذهان وهو أتى على لسان الامام عفوياً وغير مقصود بذاته كأسلوب التزيين.
المحاورة: مستمعينا الأفاضل بعد هذه الاجابة التي أدلت بها خبيرة البرنامج على الهاتف حول فن التشبيه في نهج البلاغة الدكتورة دلال عباس الأستاذة في الأدب المقارن الفارسي والعربي من جامعة بيروت نعود بكم لنستعرض معاً مظاهر اخرى من توظيف الامام علي عليه السلام لفن التشبيه في نهجه ونتقدم بشكرنا الجزيل للأستاذة دلال عباس ونتابع معاً بعد هذا الفاصل ما تبقى من هذا اللقاء.
المذيع: مستمعينا الأطايب ، بعد هذه الإجابة التي أدلي بها خبيرنا علي الهاتف حول فن التشبيه في نهج البلاغة ، نعود بكم لنستعرض معاً مظاهر أخري من توظيف الإمام علي (ع) لفن التشبيه في نهجه ، تابعونا ....
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
وهكذا نجد أن بلاغة سيد البلغاء أمير المؤمنين (ع) لا يقصد بها العمل التشبيهي بحدّ ذاته كغاية منشودة . بل هي وسيلة من الوسائل البلاغية التي يتم عبرها إيصال المعاني والمفاهيم ، فتُبنَى على ضرورة الصياغة والتركيب. وهذا يعني أن مثل هذه الوسائط اللغوية، صارت عنواناً بارزاً من عناوين بلاغة سيد الأوصياء(ع) فهو يقول بعد ذلك التشبيه البديع الذي استخدمه في تشبيه تزاحم الناس عليه في قوله : فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ:
حَتى لَقَدْ وُطِئَ الحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ وشُق عطفاه تعني: خُدِش جانباه من الاصطكاك ـ وكان هذا من الازدحام لأجل البيعة على الخلافة. وربيضة الغنم ـ الطائفة الرابضة من الغنم - يصف ازدحامهم حوله، وجثومهم بين يديه. وهو بذلك يعرض علينا صورة تشبيهيّة متحرّكة أقرب ما تكون إلي التمثيل في تدفّق الناس عليه كالسيل الهادر وسقوط ولديْه الحسنين عليهما السلام بين الأيدي والأرجل وكأن الناس قطيع الغنم المتلهّف للماء والطعام وهو يحيط حول راعيه من دون أن يحفل بشيء سوي إشباع غريزته إلي الشراب والطعام !
وهكذا يحاول الإمام علي (ع) تقريبَ المفاهيم المعروضة ، من خلال الاستشهاد بالمعالم والملامح القريبة من نفسية المجتمع العربي آنذاك ، والذي كان - مثلما هو معروف - مجتمعاً منصهراً في الأرض وما تحتويه فيقول الإمام علي عليه السلام بعد ذلك موظّفاً التشبيه مرّة أخري بما يألفه المجتمع القروي والريفي : (وَ مُجْتَنِي اَلثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ) فيشير الإمام (ع) إلى أن الوقت الذي كان في زمن السقيفة لم يكن مناسباً ليطالب بحقه فلو نهض إليها كان كالزارع بغير أرضه لا ينتفع بما زرع ؛ حيث نلاحظ هنا نوعاً من التشبيه أكثر تعقيداً من التشبيه السابق ، فهو تشبيه متعدّد الأطراف ، بل هو تشبيه فعل بما يشتمل عليه من زمان بفعل آخر مؤكّداً فيه علي عدم جدوي الفعل إن لم يكن في وقته المناسب ، فيكون من باب العبث و المحاولة دون طائل ... !
مستمعينا الأطايب !
تتبّعنا لمظاهر بلاغة التشبيه في كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام سيتواصل في محطّتنا القادمة من برنامج علي خطي النهج ، نشكر لكم طيب متابعتكم ، وكونوا في انتظارنـــا .