توسل الادباء الايرانيون الى اغراضهم التربوية والاخلاقية باسلوب القصة والحكاية لميل القلوب اليها، وانس النفس بها، وبُعدها عن دواعي الملل الذي يؤدي اليه طول الاستماع الى العظات المجردة التي يثقل وقعها احياناً على الاسماع، وتجفوها بعض الطباع.
واذا كانت الحكاية التمثيلية تأتي اكثر ما تأتي اشتاتاً وفرادى في شتى المناسبات مفرقة في ثنايا الكتب والموضوعات كأنها حبات عقد متناثرة لايجمع شتاتها نظام، فان الحكاية التهذيبية قد افردت لها كتب خاصة الفت لهذا الغاية، وجاءت فيها مبوبة مرتبة تحت عناوين تحدد اهدافها ومراميها، وتجمع بينها وحدة الغاية والموضوع.
وقد هدف مؤلفو تلك الكتب الى هدفين: اخلاقي وتعليمي، فعالجوا بها تربية النفوس، وعلموا الناس فنون البلاغة والانشاء، من خلال كتب وروائع خلدها الزمن، وذاع صيتها عبر الامصار والاعصار.
والمراد بالحكاية التمثيلية تلك الحكايات التي تقوم مقام الشاهد والمثل، فالكاتب او الشاعر او المحدث يسوق قضية فيعززها او يأتي برأي فيدلل على صحته بحكاية من هذه الحكايات.
وعلى سبيل المثال فان صاحب (جهار مقاله) او المقالات الاربع يتحدث في الفصل الخامس من مقدمته عن حكاية (النسناس) فيقول: انه حيوان في بادية التركستان، منتصب القامة، عريض الاظفار يضمر العداوة للآدميين، فاذا رأى انساناً واقفا على قارعة الطريق خطفه.
وهو يؤيد هذه القضية بحكاية يرويها عن ابي رضا بن عبد السلام النيسابوري مؤداها انه كان سنة عشر وخمسمائة يسير في قافلة عظيمة، فرأى امرأة في غاية الحسن تنظر اليهم، فلما كلموها لم تحر جواباً، ولما هموا بالاقتراب منها فرّت تعدو بسرعة فلم تلحق بها الجياد، وقال له المكارون الاتراك انها انسان وحشيّ يسمى النسناس!
ثم يتحدث النظامي العروضي في مقالاته الاربع عن شرائط الكتابة والكتّاب، والشعر والشعراء، والنجوم والمنجمين، والطب والاطباء، ويردف كل مقالة بعشر حكايات طريفة مما اتفق وقوعه لمشاهير هؤلاء تصديقاً لما ذهب اليه في هذا المقالات.
وفي الباب الرابع من رائعة اخرى هي قابوسنامه يرى المؤلف يان الله اختص ذوي اليسار فقط بفريضتي الزكاة والحج، ويقول ان الله لم يأمر غير القادرين بزيارة بيته، وان قيام الفقير بهذه الفريضة القاء بنفسه في التهلكة، ويدلل على صحة رأيه هذا بحكاية الدرويش الحاج، ومناظرته في عرفات مع رئيس بخارى.
ففي ختام هذه الحكاية يقول الدرويش لهذا الرئيس: (أيكون جزائي وجزاؤك كلينا سواء يوم الجزاء وانت ترفل في تلك النعمة وأنا في هذه الشدّة؟
فيجيبه الرئيس: حاشا ان يجزيني الله عزوجل مثل جزائك يوم القيامة، فلو كنت اعرف ان ستكون منزلتي ومنزلتك سواء لما اتيت قط الى البادية، فلما سأله الدرويش عن السبب، قال: انا جئت بأمر الله وقد جئت انت مخالفاً امره، لقد دُعيت فأنا ضيف وانت طفيليّّ، فأنى تكون حرمة الطفيلي كحرمة الضيف؟
لقد أمر الله الاغنياء بالحج وقال للفقراء: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »، انت جئت الى البادية بغير امر الله عزوجل في ذلّ ومسغبة، والقيت بنفسك في التهلكة فكيف تستوي واهل الطاعة؟!).
وتكثر هذه الشواهد القصصية في كتب التاريخ والادب، ولكنها لازمة من لوازم كتب السياسة والنصيحة مثل قابوسنامه، وسياستنامه، ونصيحة الملوك، حتى لتزدحم بها ابواب بعض هذه الكتب في تكلّف قد يفقدها رواءها كما هو ملحوظ في سياستنامه، ونصيحة الملوك.
وفي الحقيقة فان قابوسنامه من بينها يعدّ خير كتاب استخدمت فيه هذه الشواهد دون اسراف، فحكاياته تأتي في وقتها، وفي مكانها من الباب كلما دعت اليها المناسبة، وقد خلا كثير من ابوابه من الحكايات لعدم الحاجة اليها.
ويستعين الادباء الايرانيون بالحكاية في التمثيل لتجسيم فكرة، او شرح معنى وتقريبه للاذهان، ونحن نشهد هذه الظاهرة في الكثير من المثنويات الصوفية مثل: منطق الطير، وحديقة الحقيقة، ومثنوي المولوي.
وعلى سبيل المثال، ففي منطق الطير يجمع الهدهد الطيور، ويدعوها للرحلة الى حضرة السيمرغ بجبل قاف، فيقوم بعضها معتذراً متعللاً بسبب من الاسباب للقعود، ويعنف الهدهد كلاً منها، ويأتي بحكاية يجسم بها خطل رأيه، ويسفّهه.
فالببغاء مثلا يقول في اعتذاره ما معناه: (انني خضر الطيور، ولذلك فانا اخضر الكساء كي استطيع ان اشرب ماء الخضر، ولا حول لي لدى السيمرغ، تكفيني شربة من عين الخضر، فيجيبه الهدهد قائلا: انك تريد ماء الحيوان حبّاً في الحياة، اذهب فأنت لا لبّ لك، انت مجرد قشر...).
ويعقب على ذلك بحكاية قصيرة خلاصتها ان الخضر عرض على مجنون بالعشق الالهي ان يصحبه، فأجابه ان حالينا جدّ مختلفين، انت شربت ماء الحيوان لتبقى على روحك سرمداً، ولكني اعمل على الخلاص من روحي اذ لا جدوى لها بغير الحبيب، لست مثلك ابقى على الروح، بل ابذلها كل يوم في سبيله، فمن الخير ان يبتعد كل منا عن الآخر ابتعاد الطير عن الشَرَك.
ويمثل السنائي في الحديقة لاصحاب الغفلة والجهال بحكاية الزنجي الذي اطلع على قبحه في المرآة فرماها بالقبح وحطمها...
غير ان جلال الدين الرومي بذّ جميع العرفاء بكثرة تمثيلاته في المثنوي، حيث تتميز حكايته بما تتضمنه من اشارات بعيدة وقريبة الى آيات قرآنية واحاديث وروايات مختلفة للمفسرين، واصحاب السير والاخبار مما يتطلب من قارئه احاطة شاملة بالثقافة الاسلامية وما دخلها من ثقافات الامم الاخرى.
*******