يمتلئ ديوان الشاعر العارف افضل الدين الخاقاني بذكريات حياته، فقد سلط عليها الضوء بموهبته الشعرية الفريدة من نوعها، ولذلك فان من السهولة بمكان ان نتعرف على الكثير من منعطفات حياته من خلال اشعاره.
ويرى الكثير من الباحثين والناقدين ان لغة الخاقاني الشعرية صعبة، ومليئة بالتكلف، ومع ذلك فان فنّه الوصفي بلغ قمة سامقة في الجمال والابداع.
وفي المقابل يرى ناقدون آخرون انه استخدم في اشعاره اسهل الالفاظ التي تتناسب مع اسلوبه في التعبير، ونحن نجد هذه السهولة متجلية في اشعاره الغزلية الامر الذي يجعلها نموذجاً للاشعار المتميزة بالعاطفة الصادقة.
وقد يقع خاقاني احياناً تحت تأثير الشاعر العارف الشهير سنائي، مما اضفى على اشعاره طابعاً من الاهتمام بالقيم المعنوية والمعرفية الى درجة انه يعتبر من شعراء اهل الباطن، والمعنى، والعرفان، ويقدم لنا خاقاني في هذا النمط من الاشعار الزهدية اسلوباً قوياً ومقتدراً في التعبير.
يستند خاقاني في اشعار الى خلق المعاني غير المعروفة، وابداع التعابير الجديدة، فقد استطاع من خلال اوصافه ان يبتدع تشبيهات جديدة، وبعيدة عن الذهن.
وبالجملة فان الخاقاني يتمتع بقوة الخلق والابداع، وقد ابتكر تركيبات جديدة، وبديعة، وجاء بموضوعات جديدة في الشعر لم تكن معهودة من قبل، فقد صبّ الاحاسيس والافكار الجديدة في القوالب التي كان صنعها بنفسه، فاصبح مبدعاً ومبتكراً في الشعر بدل من ان يكون مقلداً كما يشير هو نفسه الى ذلك في قوله:
(المنصفون لي يعلمون انني
قد اتيت في الالفاظ والمعاني
بأسلوب جديد، ولم اتّبع نهجَ القدامى...).
(تسألني ايّها الصديقُ عن حالي
فماذا عسى ان يكونَ حالي؟
كبدٌ مفهمٌ بالآلامِ، وقلبٌ مليئٌ بالدماءِ!
فقال لي صديقي: سمِعْتُ انّك تُلاطِفُ العُشّاقَ
فقلتُ له: وهل أنا خارجٌ من دائرتهم ايّها الصديقُ؟!
قلتَ لي انّك ستأخذُ بيدي انْ أنا سقطتُّ
وهل من الممكنِ ان أكونَ أكثر سقوطاً ممّا أنا عليه؟!).
الابيات السابقة هي للشاعر والقاص الايراني الشهير نظامي الگنجوي الذي عاش في القرن السادس الهجري.
وهو الحكيم ابو محمد الياس المعروف بالنظامي الگنجوي الذي لانمتلك معلومات دقيقة عن تاريخ ولادته رغم ان المؤرخين يقدرون هذا التاريخ بين سنتي 530 و540 للهجرة استناداً الى اشعاره وآثاره.
وُلد نظامي في مدينة گنجه، ونشأ فيها، حيث كانت هذه المدينة تقع آنذاك على ضفتي نهر(كانجاشاي) او نهر كنجه في شمال ايران، وكانت تعتبر المركز الرئيسي لانتشار الشعر والادب الفارسي.
حيث ازدهر فيها الشعر الى حد كبير، وتخرج منها شعراء كبار مثل: الخاقاني، والفلكي، وابي العلاء الگنجوي، وادى فيها ادباء لامعون مثل: مهستي، ونظامي من خلال آثارهم واشعارهم الى ان تتحول هذه المدينة الى احدى المراكز المهمة الكبيرة للشعر الفارسي.
ورغم الدراسات الواسعة والمختلفة التي اجريت خلال السنوات الاخيرة حول نظامي الگنجوي من قبل الباحثين الايرانيين والاجانب، وتم نشرها، الا ان هناك نقاطاً كثيرة في حياته مازالت وراء ستار من الغموض والابهام.
واذا ما اردنا ان نتعرف على حياة وافكار نظامي فان الشيء الوحيد الذي يسعفنا في هذا المجال هو اقوال كتّاب التذاكر اي (التراجم) بالاضافة الى الاشارات القليلة والمتفرقة التي ضمنها الگنجوي آثاره حول حياته وافكاره، وكذلك الدراسات التي نشرت حتى الآن من قبل الباحثين حوله.
واستناداً الى المصادر الموجودة، فقد رأت عينا نظامي النور في احضان عائلة عرفت بالتجارة والتموّل، ولذلك فقد قضى فترة طفولته في الدرس والبحث دون ان تعكر صفوه مصاعب الحياة.
ومالبث الگنجوي ان تعرف على العلوم المتداولة في عصره، واستناداً الى اقوال النظامي نفسه في اشعاره فانه كان يمتلك معلومات كافية حول علم الفلك، والكيمياء، والفلسفة، والكلام بالاضافة الى معرفته بالشعر، والنثر الفارسي والعربي، وبذلك فقد خصص القسم الاكبر من سني حداثته وشبابه لتلقي العلوم لدى اساتذة عصره، والدراسة في مدارس ذلك العصر.
رغم ان نظامي الكنجوي كان من ابرز رجال عصره في فن الشعر، وانه كان يتمتع باسلوب سامٍ وبديع، الا انه وبسبب استغنائه من الناحية المالية - تجنب خلافاً لشعراء عصره- الذين كانوا يتخذون من نظم الشعر حرفة يكتسبون من ورائها، مدح الحكام والملوك، ونظم القصائد المطولة في الثناء عليهم.
وبالاضافة الى ديوان اشعاره المشتمل على عشرين الف بيت والذي لم يصلنا منه سوى عدد قليل من الابيات، فقد وصلتنا منه مثنوياته الخمس الشهيرة التي تحمل عنوان (بنج كنج) او الكنوز الخمسة.
وقد نظم الگنجوي هذه الآثار في قالب القصص موجداً بذلك اسلوباً جديداً في سرد القصص والحكايات.
وهذه المجاميع القصصية الخمس هي عبارة عن: مخزن الاسرار، وخسرو وشيرين، وليلى والمجنون، والاقاليم السبعة، واسكندرنامه التي تشتمل بدورها على قسمين هما: اقبال نامه، وشرف نامه.
يمكننا اعتبار نظامي بآثاره تلك من اركان الشعر الفارسي لسلاسة كلامه، واسلوبه الشعري، ولذلك فقد كان دوماً محطّ ثناء الشعراء، وكتّاب التراجم والباحثين الذين ظهروا بعده.
وعلى سبيل المثال فان المؤرخ والاديب الشهير العوفي صاحب كتاب جوامع الحكايات ولوامع الروايات يرى انه رصّع الادب الفارسي بكنوز اشعاره، وفضائله، وفتح بين يدي الادباء الآخرين كنوزاً من اللطائف، والبدائع بكلامه الساحر، وبيانه النافذ، وتعبيره الخلاّب.
ويؤكد جامي الشاعر العارف الشهير في القرن التاسع الهجري، والذي يعد من جملة مقلدي آثار النظامي، في كتابه المعروف (نفحات الانس)، ان مثنوياته الخمسة المعروفة باسم الكنوز الخمسة تبدو في الظاهر والصورة مجرد اساطير وحكايات خيالية، الا انها في الحقيقة ذريعة للشاعر من اجل بيان الحقائق والمعارف الالهية.
*******