البث المباشر

"أدب الكاتب" لابن قتيبة - ۲

الأحد 22 سبتمبر 2019 - 14:49 بتوقيت طهران
"أدب الكاتب" لابن قتيبة - ۲

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : "أدب الكاتب" لابن قتيبة - ۲

 

كلمة (الحِشْمة) هي من بين الكلمات الاخرى التي يتناولها ابن قتيبة الدينوري في كتابه ادب الكاتب فيبين ان عامة الناس يستعملونها في غير موضعها الصحيح ذلك لانهم يضعونها موضع الاستحياء، في حين انها بمعنى الغضب بدليل قول بعض فصحاء العرب: (ان ذلك لممّا يُحْشِمُ بني فلان)، اي، يغضبهم.
ومن ذلك ايضاً كلمة القافلة التي يذهب الناس الى انها الرّفقة في السفر ذاهبة كانت او راجعة في حين انها تعني الراجعة من السفر، فيقال: قفلت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم اي، رجعوا، فلا يقال لمن خرج من بلد الى آخر (قافلة) حتى يصدروا.
ومن بين الاخطاء الشائعة الاخرى بين الناس استعمال كلمة (المأتم) في موضع (المصيبة)، فيقولون مثلاً: كنا في مأتم، في حين ان المعنى الصحيح للمأتم كما صرحت بذلك كتب اللغة، ورُوي عن من يوثق بفصاحتهم، وبلاغتهم من العرب هو: النساء يجتمعن في الخير والشر وجمعها مآتم.
والصواب ان يقال: كنا في مناحة، وانما قيل لها مناحة من النوائح لتقابل النساء عند البكاء، ومن ذلك قولهم: الجبلان يتناوحان: اذا تقابلا، كقول الشاعر:
عشية قام النائحات وشُقّقت
جيوب بأيدي مأتم وخدود
اي بأيدي نساء، وقال آخر: رمته اناة من ربيعة عامر
نؤوم الضحى في مأتم ايّ مأتم
يريد: في نساء اي نساء.
ومن عجيب ما يطرحه ابن قتيبة في ادب الكاتب تقريره ان الناس يستعملون كلمة الربيع في موضع واحد فقط في حين ان لها مصاديق كثيرة منها ان بعضا من العرب يجعلون الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف وفصل الشتاء بعده، ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الصيف.
ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار - وهو الخريف- الربيع الاول، ويسمي الفصل الذي يتلو الشتاء، وتظهر فيه الكمأة والنور الربيع الثاني، وكلهم مجمعون على ان الخريف هو الربيع.
ومما تتخبط في استعماله العامة بل وحتى الكتّاب والمثقفون عدم التفريق الصحيح بين كلمتي (الظل) و(الفيء) فيستعملونها في معنى واحد، في حين ان الظل انما يكون غداة وعشية، ومن اول النهار الى آخر، وهو يعني الستر، ومنها قول البعض: انا في ظلك اي في سترك، ومنه: ظل الليل اي ستره لانه يستر كل شيء.
اما الفيء فلا يكون الا بعد الزوال، فلا يقال لما كان قبل الزوال (فيء)، وانما سمي فيئاً لانه ظل فاء من جانب الى جانب اي: رجع عن جانب المغرب الى جانب المشرق، والفيء هو الرجوع، قال الله عزوجل: «حتى تفيء الى امر الله» (الحجرات، 9) اي: ترجع الى امر الله.
ومن ذلك ايضاً كلمة (العرض) التي تعني لدى عامة الناس سلف الرجل من آبائه وامهاته، وان شتم العرض يعني شتم الآباء والامهات. ويبين ابن قتيبة الخطأ في هذا الاستعمال بالقول:
(انما عِرْض الرجل نفسه، ومن شتم عرض رجل فانما ذكره في نفسه بالسوء، ومنها قول ابي الدرداء (اقرض من عرضك ليوم فقرك) يريد: من شتمك فلاتشتمه، ومن ذكرك بسوء فلا تذكره، ودع ذلك قرضاً عليه ليوم القصاص والجزاء، قال حسان بن ثابت:

هجوت محمداً فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

فان ابي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

اراد: فان ابي وجدي ونفسي وقاء لنفس محمد صلى الله عليه وآله...).
ومن الاخطاء الشائعة الاخرى التي كثيراً ما يقع فيها الناس عدم تفريقهم في الاستعمال بين كلمات من مثل (الاعجمي والعجمي) و(الاعرابي والعربي)، والصحيح ان الاعجمي: هو الذي لايفصح وان كان نازلاً بالبادية، والعجمي: منسوب الى العجم وان كان فصيحاً.
والاعرابي: هو البدوي، والعربي: منسوب الى العرب وان لم يكن بدوياً.
ويخصص ابن قتيبة الدينوري في كتابه ادب الكاتب باباً آخر لتأويل وتفسير ما جاء مثنى في كلام العرب.
ومن ذلك (الاصفران) اي، الذهب والزعفران في قولهم: اهلك النساء الاصفران، و(الابيضان)، اي الشحم والشباب، و(العصران) بمعنى الغداة والعشي، و(الملوان) وهما الليل والنهار ويسميان ايضا: (الجديدين)، و(الاسودين) وهما التمر والماء.
ومما استعمل ايضا مثنى في كلام العرب، الاصغران اي: القلب واللسان، والاصرمان، الذئب والغراب لانهما انصرما من الناس، والخافقان، المشرق والمغرب، لان الليل والنهار يخفقان فيهما، وقولهم: (لا يُدرى ايّ طرفيه اطول) يراد: نسب امّه، ونسب ابيه لايُدرى ايّهما اكرم. قال الشاعر:

وكيف باطرافي اذا ما شتمتني

وما بعد شتم الوالدين صلوح

ويقال: فلان كريم الطرفين، يراد به الابوان.
وتحت عنوان (باب معرفة ما في السماء والنجوم والازمان والرياح) يورد لنا ابن قتيبة طائفة من الكلمات والمصطلحات المفيدة المتعلقة بالباب السابقة والتي لا غنى لاي كاتب ومتأدب من معرفتها لكي يستعملها الاستعمال الصحيح في كلامه وكتابته، كما انها تكشف لنا في ذات الوقت عن سعة اللغة العربية، ودقتها، وتشعب الفاظها ومعانيها.
فمن ذلك السّماء وهي كل ما علاك فاظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء، وللسحاب: سماء، قال تعالى: «ونزلنا من السماء ماء مباركاً» (ق، 9)، يريد: من السحاب.
ومنها ايضا: (الفلك) وهو مدار النجوم الذي يضمها، قال تعالى: «وكل في فلك يسبحون» (يس، 40)، سماه فلكاً لاستدارته، ومنه قيل: فلكة المغزل.
وبروج السماء واحدها برج، واصل البروج الحصون والقصور، قال عز من قائل: «... ولو كنتم في بروج مشيدة» (النساء، 78).
ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، قال سبحانه: «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» (يس، 39).
وكثيراً ما نستعمل في كلامنا كلمة الانواء، ومفردها النوء دون ان نعرف معناها الاصلي، ولكي يوضح لنا صاحب كتاب ادب الكاتب معناها الصحيح فانه يعقد فصلاً لها يقول فيه:
(ومعنى النّوْء: سقوط نجم منها في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق، وانما سمي نوء لانه اذا سقط الغارب ناء الطالع ينوء نوء، وذلك النهوض هو النوء، وكل ناهض بثقل فقد ناء به...).
نكتفي بهذا القدر من تجوالنا في رحاب كتاب ادب الكاتب، لابن قتيبة الدينوري.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة