مستمعينا الافاضل! يسرّنا ان نلتقيكم مجدداً عند جولة اخرى من جولاتنا الاسبوعية في رياض التراث الذي سطره العلماء المسلمون في ايران. عبر برنامجكم الاسبوع عبارات واشارات.
اخوتنا المستمعين الاكارم! يستمر عنصر المعالي في كتابه الاخلاقي الخالد قابوسنامه بالقاء مواعظه، ونصائحه، وارشاداته لولده بخصوص طلب العلم والفقه في الدين والشرائع وآدابه.
فيخصص الحديث في احد فروع هذا الباب للقضاء، وما ينبغي ان يأخذ به القاضي نفسه، ويلتزم به من شروط، وآداب معتبراً القضاء من المهن، والعلوم الشريفة السامية التي تفوق سائر العلوم ي درجتها، ومنزلتها، حيث يقول في هذا الصدد مخاطباً ابنه جيلانشاه: (... واذا انت سبقت العلماء، وارتفعت عليهم درجة بان اصبحت قاضياً، فان عليك ان تكون كالقضاة حليماً، صبوراً، حادّ الذهن، متوقّد الذكاء، مدبّراً، ودقيق الملاحظة والفراسة، وعارفاً خبيراً باحوال الناس، وخفايا اخلاقهم وسرائرهم، وعالماً بالدين، مطلعاً على ما يُفتي به كل مذهب...).
(... وعليك ان تحيط علماً باحتيال كل فرقة، وترتيب كل مذهب وقوم، وان تكون مطلعاً على حيل القضاة، فان حان وقت اصدار الحكم على مظلوم، ولم يكن يمتلك شاهداً، وكاد الظلم ان يقع عليه، ويُسلب منه حقه، فان عليك ان تدقق في امر هذا المظلوم، وتنظر فيه بعين التفحص والفراسة، حتى تعيد اليه حقه، وتنفي عنه الظلم والجور بحيلتك وتدبيرك.
ويتطرق الامير عنصر المعالي في جانب آخر من جوانب وصاياه الاخلاقية الشاملة في كتابه قابوسنامه الى موضوع، وشأن آخر من شؤون الحياة، بل مهنة اخرى من المهن التي من الممكن ان يمتهنها الانسان في حياته الا وهي الكتابة.
فيقدم في هذا المجال وهو الكاتب الاديب خلاصة خبرته، وتجاربه في هذا المضمار لولده مؤكداً في البدء ضرورة ان يكون من يريد ان يعمل في الكتابة حسن الخط، قادراً على تصريف وجوه الكلام، معتاداً على كثرة الكتابة حتى تصبح لديه مهارة وملكة.
وان يراعي الاختصار والايجاز ما استطاع، ويضمن المعاني الكثيرة في جمل وعبارات قصيرة موجزة دون ان ينسى تزيينها بالاستعارات، والصناعات البديعية والبلاغية، وقبل كل ذلك يجب ان لايغيب عن باله تصدر كتابته بالبسملة، وذكر الله سبحانه، والصلاة والسلام على النبي وآله، واغناء محتواها بذكر الآيات القرآنية، والاستشهاد باحاديث النبي صلى الله عليه وآله.
وباعتباره ايرانياً، ينطق باللغة الفارسية، فانه يوصي ولده في هذا الصدد ان لاتكون كتابته فارسية مطلقة بل عليه ان يمزجها، ويزينها بالكلمات والالفاظ العربية، وان يتجنب الكلمات والعبارات القديمة التي عفا عليها الدهر.
وان يتجنب اذا ما كتب بالعربية التكلف والتعسف، ويزين كلامه بالسَجْع لانه من فنون النثر العربي، في حين ان ممجوج غير مستحسن في نظيره الفارسي وان احترز منه الكاتب كان له افضل، ولكلامه اجمل، وازين.
والمهم في كل ذلك يقول صاحب القابوسنامه موصياً ولده ان يكون كلام الكاتب متميزاً، مزيناً بالاستعارات، آخذاً فيه بالايجاز والاختصار، وان يحيط الكاتب علماً باسرار، وفنون، وخفايا الكتابة، ويدرك مغزى الكلام الذي يبدو مستعصياً على الفهم والادراك في ظاهره.
اخوتنا المستمعين! وفي باب آخر من ابواب كتابه يبسط الامير الاديب عنصر المعالي كيكاوس حديثه عن موضوع مهم آخر، وظاهرة مهمة من ظواهر الحياة على الانسان ان يأخذ نفسه فيها بالاداب المعينة لها، وان لا يطلق لها العنان.
هذه الظاهرة هي ظاهرة المزاح وحدودها، وقيودها، وآدابها، حيث يقول مؤلف القابوسنامه في هذا الصدد: (اعلم بنيّ ان المزاح مقدمة الشر، فاجتنب ما استطعت المزاح في غير مقامه وموضعه، واحذر من ان تمزج مزاحك بالسبّ والشتيمة، بل عليك ان استطعت ان تتجنب المزاح في كل الاحوال رغم ان المزاح ليس بعيب ذلك لان رسول الله صلى الله وعليه وآله كان يمزح في بعض الاحيان...).
(... وقد جاء في الخبر انّ امرأة عجوزاً كانت ذات مرة في بيت عائشة فسألت النبي صلى الله وعليه وآله قائلة: هل انا من اصحاب الجنة، ام من اصحاب النار؟ فابتسم النبي صلى الله عليه وآله واراد ان يمازحها قائلا: لاتدخل الجنة عجوز! وهو يريد ان الطاعنين في السن لا يدخلون الجنة بل يرجعهم الله سبحانه الى عهد شبابهم، ثم يدخلهم بعد ذلك الجنة...).
وهكذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ولكنه لم يكن يقول الاّ حقاً، فلم يكن يلوّث مزاحه بكذب، او نَبْز، او كلام باطل، مما اعتاد المازحون مزجه بمزاحهم، فيثيرون بذلك غضب الآخرين بدلاً من ان يكون مزاحهم سبباً للترويج عن النفس، وادخال الفرح والسرور على قلوب الآخرين.
احبتنا المستمعين! ويختتم الامير عنصر المعالي وصاياه، وارشاداته لولده بالحديث عن آيات الله جل وعلا في الكون، وعجائب مخلوقاته، واسرار حكمته، ثم بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله، فيقول في هذا المضمار:
(... واعلم بنيّ ان الله تعالى لم يخلق هذا العالم احتياجاً له، بل خلقه بموجب العدل، وزينه بموجب الحكمة، ذلك لان الوجود افضل من العدم، والكون احسن من الفساد، والزيادة ارجح من النقصان، والجميل افضل من القبيح، والله جل وعلا قادر على الامرين معاً، وهو عليم صنع ما هو افضل، ولم يفعل ما يخالف علمه...).
(... فما كان يقتضي العدل، فانه لايقتضي ولايوجب الجهل والعبث، فكان كل شيء مخلوقاً على اساس الحكمة، مصوراً على اساس الانسجام والجمال، في نفس الوقت الذي كان فيه الخالق تعالى قادراً على ان يمنح الضياء دون ان يخلق الشمس، وينزل المطر من غير سحاب، ويركب الطبائع دون تركيب، وهكذا فانه جل وعلا لم يخلق شيئاً دون واسطة، فجعل هذه الواسطة سبب الكون والفساد اقتضاء للحكمة...).
اخوتنا المستمعين! وبعد ان يتحدث صاحب القابوسنامه عن آيات الله عزوجل في الكون، وخلقه كل شيء على اساس الحكمة والتدبير، يخلص الى تفصيل الكلام عن حكمة خلقه تعالى للناس، وحكمة ارساله وبعثه للانبياء والرسل، فيقول في هذا المجال: (... واختار جل وعلا من بين الرجال الانبياء والمرسلين، وافاض عليهم العلم والحكمة، فأمرهم ان يعلموا الناس نظام، وترتيب الاسترازق، وشكر الله على هذا الرزق حتى يكون خلق العالم قائماً على العدل، والعدل قائماً على الحكمة، والحكمة مستمدة من الانبياء، والرسل، وبالتالي من الله تبارك وتعالى...).
ويوصي الامير العالم والاديب عنصر المعالي كيكاوس ولده في ختام حديثه هذا، يوصي ولده بان يكون مؤمناً بالمغيبات ومن بينها الملائكة، وان يعتقد صدق جميع الانبياء والرسل دون استثناء كما امره الله تعالى بذلك في محكم كتابه الكريم.
وان يكون مطيعاً لاوامر الله سبحانه في شرائعه، وتعاليمه، ممتثلاً لها، مسارعاً الى العمل بها، وان لايقتصر في شكر المنعم، ويرعى حرمة فرائض الدين ويلتزم بأدائها حتى يكون محمود السيرة في الدنيا، حسن العاقبة في الاخرة.
بهذا احبتنا المستمعين الاكارم، نأتي الى ختام تطوافنا لهذا الاسبوع في روائع التراث الادبي، والاخلاقي في ايران الاسلام. على امل ان نلتقيكم في حلقة الاسبوع القادم عند رائعة جديدة من هذه الروائع. نستودعكم الله والى الملتقى.
*******