اخوتنا المستمعين الكرام، نرحب بكم اجمل ترحيب في هذا اللقاء الجديد الذي يجمعنا معكم عبر حلقة اخرى من حلقات برنامجم الاسبوعي (عبارات واشارات). فأهلاً ومرحباً بكم مرة اخرى أملين ان تقضوا معنا اوقاتاً مفيدة وممتعة.
احبتنا المستمعين، يفرد الاديب والشاعر ناصر خسرو فصلاً من رحلته للحديث عن مشاهداته في بلاد الشام، وبالتحديد عن مدينة معرّة النعمان مسقط رأس الشاعر ابي العلاء المعرّي.
فيقول واصفاً هذه المدينة: (وهي مدينة عامرة، وقد رأيت عند بوابة المدينة اسطوانة ضخمة كتبت عليها عبارات غير مفهومة بخط من الخطوط العربية، فسألت شخصاً عنها فقال انها طلسم ضد العقارب لكي لا تظهر العقارب في هذه المدينة ولا تأتي اليها، وحتى اذا جاؤوا بها من الخارج، فانها لا تلبث ان تهرب منها!...).
ويستأنف ناصر خسرو حديثه عن هذه المدينة الشاميّة، فيقول: (قِسْتُ ذلك العمود فاذا به عشرة اذرع، وقد رأيت اسواق هذه المدينة معمورة للغاية، وكان مسجدها الجامع واقعاً على مرتفع، وفي وسط المدينة اذا ما اراد الانسان ان يدخل المسجد من اي جانب فان عليه ان يرتقي ثلاث عشرة درجة، ويمثل القمح المحصول الاكثر رواجاً في هذه المدينة، بالاضافة الى اشجار التين والزيتون والفستق واللوز والعنب، ويؤمّن ماؤها من مياه الامطار والآبار...).
ويفرد ناصر خسرو بعد ذلك موضوعاً خاصاً يتحدث فيه عن الشخصية الاكثر شهرة في هذه المدينة وهي شخصية الشاعر والاديب ابي العلاء المعرّي.
فيقدم لنا بذلك معلومات ادبية وتاريخية قيمة تهمّ الباحثين المتخصصين في تاريخ الادب العربي وخصوصاً فيما يتعلق بأبي العلاء المعرّي الذي يعدّ من اساطين، وفطاحل الشعر، والادب، واللغة في اواخر العصر العباسي.
يقول ناصر خسرو بشأن هذه الشخصية: (... وقد كان في هذه المدينة رجل يدعى ابا العلاء المعرّي، وكان اعمى، وقد أُوكلت اليه رئاسة المدينة، وكان يتمتع بنعم كثيرة، ولديه الكثير من الخدم والحشم والعمال، الا انه سلك سبيل الزهد، فكان يرتدي صوفاً خشناً، ويلازم بيته، وكان مرتّبه عبارة عن نصف مَنّ من الخبر الشعير ولا يأكل سواه...).
وبعد ذلك يبدأ ناصر خسرو بالحديث عن المكانة الادبية التي كان ابو العلاء المعرّي يتمتع بها فيقرر في هذا المجال انه بلغ في الشعر والادب درجة بحيث ان افاضل الشام والمغرب والعراق اقرّوا واجمعوا على ان احداً لم يستطع ان يبلغ درجته هذه في عصره، وانه قد وضع كتاباً اسماه (الفصول والغايات) جاء فيه بكلمات وعبارات مرموزة، وامثالاً بالفاظ فصيحة وعجيبة لم يستطع عامة الناس ان يقفوا على معانيها الاّ ما ندر منها.
وقد كان للمعرّي حلقة للتدريس، فيجتمع عنده اكثر من مائتي شخص يقدمون من اماكن مختلفة، ويقرؤون لديه الادب والشعر، وقد سمعت يقول ناصر خسرو انه قد انشد اكثر من مائة الف بيت.
ويروى ان شخصاً سأله: لقد حباك الله تبارك وتعالى بكل هذه الاموال والنعم، فلماذا تهبها للناس، وتحرم نفسك منها:
فقال: لا حاجة بي الى شيء سوى ما آكله، وأُقيم اودي به.
مستمعينا الاحبة، وفي مواضع اخرى من رحلته يفصل ناصر خسرو الحديث عن مدن وامصار وحواضر اخرى مرّ بها اثناء تجواله في بلاد الشام متجهاً الى البيت الحرام.
من مثل طرابلس وحلب، وبيروت، حتى يصل اخيراً الى بيت المقدس، فيمكث عندها طويلاً واصفاً اياها، وباسطاً الحديث حول طبيعتها الجغرافية والطبيعية، ومحاصيلها الزراعية، والمعالم، والآثار، والمقامات الدينية فيها.
فلنتعرف معاً اخوتنا المستمعين الكرام على صفة واوضاع اولى القبلتين وثالث الحرمين بيت المقدس على لسان الشاعر والحكيم ناصرخسرو:
(... في الخامس من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين واربعمائة دخلنا بيت المقدس... ويطلق اهل الشام ومن جاورهم على بيت المقدس اسم القدس، وكان الاهالي ممن لم يستطيعوا الذهاب للحج يحضرون في القدس في موسم الحجّ، ويقفون في الموقف وينحرون القرابين كما هو متبع، وقد كانت السنة التي دخلنا يها بيت المقدس حافلة بالزوار الذي كان عددهم يبلغ اكثر من عشرين الفاً وذلك في اوائل شهر ذي الحجة...).
وعن صفة مدينة بيت المقدس وطبيعتها الجغرافية، ومحاصيلها الزراعية، والآثار والمعالم المهمة يها يقول شاعرنا واديبنا ناصر خسرو:
(... وهي مدينة واقعة على جبل ولا يؤمّن ماؤها الا من الامطار، وهي مدينة كبيرة يعيش فيها عشرون الف انسان، وتمتلك اسواقاً عامرة، وابنية فخمة، وقد رُصفت ارض المدينة كلها بقطع الحجر، وسوّيت المرتفعات فيها مع الارض فاذا نزل المطر غسلت الارض كلها بمائه...).
(وفي هذه المدينة صنّاع كثيرون كل مجموعة منهم تزاول مهنة، ويقع مسجدها الجامع في مشرقها بحيث انه يطالع الداخل اليها من هذه الجهة، فاذا اجتزت الجامع امتدت امامك صحراء واسعة بسيطة يقال لها الساهرة، ويقال ان هذه الارض هي التي سيحشر فيها الناس يوم القيامة، ولذلك فقد قدم اناس كثيرون من اطراف العالم الى هذه المدينة، واتخذوا لانفسهم مقاماً فيها لكي يموتوا ويدفنوا فيها...).
ومن بلاد الشام، وعجائبها وغرائبها، وطبيعتها الغناء، واجوائها المعتدلة، ومعالمها، وآثارها الدينية والحضارية... يخرج ناصر خسرو متجهاً صوب ارض الحضارات، والتاريخ العريق، ارض مصر وما حولها من بلاد النوبة.
فيبدأ بتسجيل مشاهداته، وملاحظاته عن نهر النيل، وعن الطبيعة الجغرافية لبلاد النوبة، والمدن الواقعة على ضفاف نهر النيل، ومحاصيلها الزراعية.
حتى يصل في وصفه هذا الى مدينة القاهرة حاضرة مصر، هذه المدينة التي كان لها اكبر الاثر في حياة ناصر خسرو، ففي خلال اقامته فيها توطّدت العلاقة بينه وبين احد الملوك الفاطميّين.
وعلى يد هذا الملك الفاطمي المستنصر بالله اعتنق ناصر خسرو المذهب الاسماعيلي، وتحول الى واحد من الدعاة الى هذا المذهب في بلاده ايران.
عن صفة مدينة القاهرة اثناء وصوله اليها يقول ناصر خسرو في رحلته مسهباً القول هذا: (عندما يتجه المسافر من جانب الشام الى مصر يصل اولاً الى مدينة القاهرة ذلك لان مصر تقع في الجنوب، ويطلق عليها اسم (القاهرة المعزّية) و(الفسطاط)...).
ويحدثنا ناصر خسرو بعد ذلك في خلال حديث مسهب عن سبب تسمية هذه المدينة بالقاهرة، وعن كيفية مجيء الخلفاء الفاطميين اليها، وامساكهم بزمام الخلافة فيها، وعن اسواقها الواسعة العجيبة مما لا نجد له نظيراً في بلد آخر آنذاك.
وعن قصور السلاطين فيها، وطرازها المعماري، والمناطق المحيطة بها، مما لايتسع وقت البرنامج للاشارة اليه كله على لسان ناصر خسرو.
ولذلك نجد اخوتنا المستمعين انفسنا مضطرين الى ان نوكل بقية الحديث عن مدينة القاهرة الى حلقة الاسبوع المقبل باذان الله. فحتى ذلك الحين نستودعكم الله، وكونوا في انتظارنا، شاكرين لكمن حسن متابعتكم.
*******