نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا مَنْ تعززّ بقدرته، يا مَنْ قدر بحكمته، يا مَنْ حكم بتدبيره، ...)، هذه العبارات تتخضع لصياغة فنية هي: التفريع لكل ظاهرة كل واحدة عن الاخري، علي النحو الآتي: (يا من تعزز بقدرته) تفرّع منها - وهي القدرة - بعبارة (يا مَنْ قدر بحكمته)، ثم تفرعت من الحكمة المذكورة عبارة (يا مَنْ حكم بتدبيره)، ثم تفرعت من ذلك وهي ظاهرة (التدبير) عبارة (يا مَنْ دبّر بعلمه).
اذن نحن الآن امام اربعة تفريعات، كل واحدة منها تتفرع من الاخري والآن المطلوب هو: ملاحظة هذه التفريعات.
لقد فرّع الدعاء من القدرة في الحكمة، وفرّع من الحكمة: التدبير، وفرّع من التدبير: العلم.
تري ما هي النكات والاسرار والاثارات المدهشة في هذا النمط من الصياغة لمظاهر عظمته تعالي؟
نقف اولاً عند (قدرته) تعالي وهي في المقدمة من صفاته الجمالية تعالي، ويلاحظ الدعاء ربط قدرته بصفة اخري هي: العزّ، والسؤال ما هي صلة القدرة بمظهر العزّ؟
الجواب: ان العزّة هي المنعة، وهي ما يعز وجوده، اي: ان الله تعالي هو العزيز والممتنع مثاله في هذه الصفة وغيرها، ومن الواضح، فإن القدرة، اي: التمكن من الشيء والسيطرة عليه بلا حدود تجعل المتمكن والمسيطر موصوفاً بالعزّة، حيث يمتنع حصول غيره تعالي في هذا الشأن وسائر صفاته تعالي.
ونتجه الي الحكمة، وهي متفرعة من قدرته تعالي، بمعني ان قدرته تعالي ليست اعتباطية بل مقرنه بالحكمة التي تتطلب أو توجّه ذلك وفق الحكمة التي ينفرد بها تعالي ويجعلها عباؤه. هنا، نجد ان (الحكمة) ربطها الدعاء بالتدبير، فقال: (يا مَنْ حكم بتدبيره). فماذا نخلص أو: ماذا نستلهم من السمات المذكورة.
اخيراً فإن الحكمة تنسحب علي تدبيره تعالي للامور اي: انه تعالي يدبّر الكون ويربّي المخلوقين وفق الحكمة المذكورة.
اذن ان الله تعالي عزيز، قادر، حكيم، مدبّر، وهذا ما يجعل الشخصية القارئة للدعاء مطمئنة الي انها قد تعمّق ادراكها لعظمته تعالي وانها محمية برعايته.
اخيراً يختم مقطع الدعاء بالعبارات الآتية: (يا مَنْ تجاوز بحلمه، يا مَنْ دني في علوهّ، يا مَنْ دني في علوهّ، يا مَنْ علا في دنوه)، تري ماذا نستخلص في النهاية من العبارات المتقدمة؟
اولاً: اننا امام احد مظاهر عظمته تعالي، وهي الحلم، وإن حلمه تعالي قد بلغ الي حدّ انه يحلم عن المذنبين، ان الحلم هو الصبر والاناة، وكلها تنعكس من خلال هذه الرحمة علي المذنبين، حتي وردت العبارة المشهورة: (يا مَنْ يحلم عني حتي كأني لا ذنب لي،...) وهل ثمة حلم غير متمناه يتسم به غير الله تعالي، كلاّ: بقي ان نحدثك عن عبارة: (يا مَنْ دني في علوّه، يا مَنْ علا في دنوه) وهي عبارة في غاية الرحمة، حيث تعني انه تعالي قريب من عبده الداعي، ويجيبه اذا دعاه انه قريب لانه تعالي يتفضل علينا بالرعاية والحفظ، كما انه بعيد في قربه، وذلك لان المنحرف من الناس لا يفقه دلالة عظمته فالداني - وهو رمز الاستجابة للدعاء هو عال متعال، والتعالي أو العال، والعالي ايضاً هو (دان) من عبده، يحقق له مختلف حاجاته.
*******