لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، وما تتضمنه من المعرفة العبادية في ميدان العقائد والاخلاق والاحكام، ومن ذلك: دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا مدبر النور، يا نور كل نور، با نوراً بعد كل نور،...).
ان مقطع الدعاء المذكور يجعل (النور) وما يتفرع من دلالاته محوراً لمظاهر عظمة الله تعالى، فقد سبق ان حدثناك عن عبارات بدئاً بـ (يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور) وهكذا تتعاقب العبارات الخاصة بـ (النور) على نحو ما لاحظناه، ونلاحظه لاحقاً ان شاء الله تعالى.
اذن لنتحدث عن كل عبارة، ونبدأ ذلك بالحديث عن عبارة (يا مدبر النور)، فماذا نستلهم منه؟
في لقاءات سابقة لا حظنا ان (النور) تتنوع دلالاته في نظر المفسرين، الا ان النور بصفته (رمزاً) لما هو ايجابي يظل هو الاظهر دلالة، وفي ضوء هذه الحقيقة يمكننا الذهاب الى ان هذا الرمز في عبارة (يا مدبر النور) يعني: انه تعالى هو المصدر لكل نور، اي: لكل ما هو خير فمثلاً عندما نقرأ عبارة (يا مدبر الليل والنهار) في دعاء آخر، نجد ان هذه العبارة تعني بان الله تعالى هو المنشيء أو المنظم لتعاقب الليل والنهار وهما معطيان من معطيات الخير كما هو واضح.
اذن عبارة (مدبر النور) تعني بالاضافة الى انه تعالى خالق النور او الخير فانه تعالى هو المنظم أو المخطط لمستوياته في نطاق ما هو طبيعي من الظواهر أو ما هو مبادئ الخير والنكتة هي: ان الله تعالى يظل هو المصدر والمخطط لكل ما هو خير.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا نور كل نور) هنا نحسب بأن قارئ الدعاء سوف يتساءل قائلاً: ما هو الفارق بين قولنا ان الله تعالى هو المصدر لكل خير أو هو المخطط لمبادئ الخير وبين عبارة (يا نور كل نور)؟ أليس هذا يعني بانه تعالى مصدر النور، اذن مالفارق بين عبارة (يا مدبر النور) وعبارة (يا نور كل نور)؟
الجواب: ان الفارق بين العبارتين يتضح تماماً اذا قلنا بأن الله تعالى هو المصدر للنور، ولكن من جانب آخر، نقول بأنه تعالى هو نور كل نور في هذا الوجود من حيث تنوع الخير، ومن حيث تفريعاته، ومن حيث مفرداته التي يخترعها البشر مثلاً في نطاق السلوك وانعكاساته في البينات المتنوعة التي تتخالف فيها مبادئ الخير وتتجانس في آن واحد: بحسب نمط البيئة، فمثلاً: عندما يرسم علماء النفس العلمانيون مبادئ السلوك السويّ، فان غالبية هذه المبادئ تتجانس مع ما رسمه الاسلام من المبادئ: كالايثار والغيرية والصدق، وان كان البعض الآخر منها لا يتلاءم مع التصور الاسلامي للخير: مثل العمل من اجل الله تعالى دون ان نطمح الى تسلم التقدير الاجتماعي للعمل، بينما المبادئ العلمانية لا تفقه المبدأ المشار اليه.
المهم ان كل عمل او مبدأ فردي او اجتماعي ايجابي يلهمه الآخرون يظل منسحباً على عبارة (يا نور كل نور)، اي: ان الله تعالى هو المصدر النوري لكل ما تفرزه هذه المجتمعات او تلك مما هو ايجابي.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا نوراً قبل كل نور) و (يا نوراً بعد كل نور). فماذا نستلهم من القبل والبعد هنا؟
الجواب: ان القبل والبعد هنا يرمز الهما الى ان الله تعالى هو مصدر النور قبل ان تتفرع اشكاله الخيرة في المجتمعات، واما انه بعد كل نور فيعني: ان المبادئ التي يرسمها تعالى تظل هي الخالدة في دلالاتها دون ان يطالهما التغيير والذي نلحظه في المبادئ العلمانية مثلاً او بمعنى انه تعالى هو المصدر لكل الانوار التي ينتهي البشر اليها في تصوراته لمبادئ الخير، ومنها مثلاً: النور الذي يختم به العصر متمثلاً في مبادئ الامام المنتظر (عليه السلام).
*******