لانزال تحدثك عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد في اواخره ما يأتي: (يا رب النور والظلام، يا رب التحية والسلام، ويا رب القدرة في الانام).
هذه العبارات الثلاث ورد في ختام المقطع ـ كما قلنا، وقد حدثناك في لقاء سابق عن عبارتي: (يا رب النور والظلام) و (يا رب التحية والسلام)، وبقي ان نحدثك عن العبارة الاخيرة وهي: (يا رب القدرة في الانام).
الا ان سؤالاً في غاية الاهمية لا مناص من طرحه الآن، وهو: ان عبارات خاصة عندما ترد في مقطع مستقل، لابد وان تكوين العبارات فيه متجانسة او متناغمة او مشتركة في دلالاتها، وهذا هو احد مبادئ البلاغة التي تحفل بها النصوص الشرعية بلا ادنى شك. من هنا، فان القارئ للدعاء، يعنيه ان يفقه ما يقرأ من العبارات، وان يتبين بلاغتها ونكاتها، وهو امر نحاول ما وسعنا ان نلفت الانتباه عليه.
لكن قبل ان نوضح الصلة بين عبارة: (يا رب القدرة في الانام) وما قبلها يجدر بنا ان نتبين اولاً دلالتها، فماذا تعني؟
هل تعني ان الله تعالى منح عباده قدرات خاصة حتى يستطيعوا من خلالها ان يوظفوها من اجل عمل الخير، سواء اكانت القدرات مادية او جسمية او معنوية او ثقافية؟
اكبر الظن ان الامر لكذلك، هذا بالاضافة الى هدف مزدوج هو: ان الله تعالى من جانب يستهدف الاشارة الى قدراته الابداعية، وهذا ما لاحظناه في عبارة: (يا رب النور والظلام)، حيث ان النور يرمز الى النهار، والظلام يرمز الى الليل وهما من آيات الله تعالى الواضحة. وبهذا يمكننا ان نلاحظ العنصر المشترك بين عبارة: (يا رب القدرة في الانام) وعبارة: (يا رب النور والظلام) بصفة انهما يصبان في معنى مشترك هو: قدرته تعالى في خلق الظواهر، وقدرته في ايداع البشر قدرات محدودة لممارسة الخير، بمعنى انه تعالى يشير الى ضرورة ان نتعلم من عظمته ما رسمه لنا من الوظائف في ممارستنا العبادية، فكمت انه تعالى سخر لنا بقدرته ما هو الخير، كذلك، يتعين علينا توظيف ما منحه لنا من القدرات المحدودة في ممارسة الخير ايضاً.
بعد ذلك نتجه الى مقطع جديد وهو: (يا احكم الحاكمين، يا اعدل العادلين، يا اصدق الصادقين،...).
هنا نلفت نظرك ايضاً الى السمات المشتركة بين هذه الاسماء او المظاهر من عظمة الله تعالى فالعبارة الاولى: (يا احكم الحاكمين)تشترك مع لاحقتها (يا اعدل العادلين) في ترتب احداهما على الاخرى، وكذلك مع عبارة (يا اصدق الصادقين) على نحو ما نوضح ذلك لاحقاً ان شاء الله تعالى.
فحسبنا ان نحدثك اولا عن عبارة (يا احكم الحاكمين)، حيث نتساءل عن دلالتها، وماذا نستخلص منها؟
من الواضح، ان (الحكم) هو: اصدار الحق وترتيب الاثر عليه، فضلاً عن كونه حكماً بين طرفين او اكثر في الغالب، وعندما يقول الدعاء (يا احكم الحاكمين)، معناه انه استخدم صيغة الافضلية، اي: اذا كان هناك من يحكم بحق حيال هذا الموضوع او القضية، فان الله تعالى هو افضل من الغير ـ اذا فرضنا ان الغير يحكم بالحق ـ، وهذه الصيغة نجدها مستخدمة في النصوص الشرعية بنحو يستخلص منه القارئ لهذه النصوص، انها تستهدف الاشارة الى ان الله تعالى هو: أرحم ما يمكن تصوره من مفهوم الرحمة وسواها، اي: انه تعالى لا حدود لرحمته، ولحكمه بالخير.
بعد ذلك نواه عبارة (يا اعدل العادلين)، هنا نلفت نظرك الى الصلة الوثيقة بين عبارة (يا احكم الحاكمين) وعبارة (يا اعدل العادلين)، (وهو ما سنحدثك عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى).
ختاماً نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******