نتابع حديثنا عن الادعية المباركة وما تنطوي عليه من النكات البلاغية المتنوعة، حيث تسهم البلاغة في تعميق المعاني وطرافتها، ... ومن هذه النماذج يمكنك ملاحظة هذا الدعاء القصير: "يا مؤنس المستوحشين، ويا انيس المنفردين، ويا اظهر المنقطعين، ويا قوة المستضعفين، ويا كنز الفقراء، ويا موضع شكوى الغرباء ...".
هذه الفقرات من الدعاء تنتسب الى احدى الصور البلاغية وهي الاستعارة ... واهميتها تتمثل في كونها تتناول الحاجات المتنوعة لقارئ الدعاء: كالمستوحش، والمنفرد، والمنقطع، والفقير... الخ... حيث يحتاج كل واحد من الانماط المذكورة الى اشباع خاص يتناسب مع الحاجة ... وبما ان هذه الحاجات متنوعة، عندئذ فان اللجوء الى اللغة الاستعارية يتكفل بتعميق دلالتها، وهذا ما نعتزم توضيحه بطيعة الحال...
اذن: لنتجه الى تحليل العبارات المتقدمة...
ان اول ما يواجهنا من الدعاء المذكور هو: هذان النمطان من الاشخاص، وهما المستوحش والمنفرد، حيث اتجه الدعاء الى الله تعالى، قائلاً (يا مؤنس المستوحشين، ويا أنيس المنفردين)... ومن الطبيعي، ان قارئ الدعاء سوف يلفت نظره هذان النمطان اللذان يبدوان وكأنهما يشتركان في صفة واحدة هي عدم وجود الأليف او الصاحب او الصديق او أي كانت آدمي يأنس به قارئ الدعاء، حيث أن المستوحش هو من لا يجد اليفاً، والمنفرد هو من لا يجد مشاركاً له في وحدته... ثم وهذا هو الاهم والمنطوي على نكات مهمة، ان الاول منهما "أي المستوحش" قد اتجه الى الله تعالى، ليصبح له "مؤنساً"، بينما الاخر وهو المنفرد قد اتجه الى الله تعالى ليصبح له "أنيساً".... ولعل قارئ الدعاء سيقف حائراً بين عبارتين ذا استعارتين يحسبهما بمعنى واحد وهو "المؤسن" و"الأنيس" ....
ومن حقه ان يتساءل ويتحرى السر الكامن وراء هاتين السمتين "الانيس والمؤنس" حيث يراهما بمعنى واحد... ثم يتساءل ايضاً عن علاقة كل منهما بالمستوحش والمنفرد.... هذه الاسئلة تفرض اهميتها على قارئ الدعاء.. وعلينا ان نصطلح بتبيين الاسرار وراء ذلك، حتى يتاح لقارئ الدعاء ان يفهم ويتذوق ما يقرأ من العبارات...
بالنسبة الى الفارق بين المستوحش وبين المنفرد، يمكننا الذهاب الى ان "المستوحش" هو من تلفُّهُ الوحشة، مقابل "الألفة"، ... بمعنى ان الوحشة هي احساس بعدم الالفة مع الشيء... وعدم الالفة تنشأ اما من عدم وجود احد من الناس مثلاً كمن يواجه الظلام او الصحراء او المتاهة بنحو عالم، حيث لا وجود للبشر وسواه.. او ينشأ الاستيعاش من البشر نفسه في حالة ما اذا كانت شخصية قارئ الدعاء لا تجد من تألفه من البشر من حيث الموافقة لها في الافكار والعادات والتقاليد والاعراف.... فتستوحش من الناس حينئذ..
اذن: المستوحش هو: اما ان لا يجد بشراً البتة مثلاً او لا يجد من يتكيف واياه... ولكن ما هو الفارق بينه وبين المنفرد؟
يتميز المنفرد عن المستوحش باكثر من سمة فمع انهما يشتركان في عدم حصولهما على من يأنسان به الا ان الفارق هو: ان المنفرد من الممكن الا يتحسس الوحشة بنفس الحجم الذي يتحسسه المستوحش، ولكنه يتجه الى العزلة، اما طواعية واما كرهاً... وفي الحالتين يحس بالحاجة الى الاخر، أي هو بنحو عام يمتلك قابلية على الألفة مع الاخر بعكس المستوحش ولكنه اما ان يجد بان العزلة هي الافضل له او يضطر الى ذلك،... وحينئذ يحس بالحاجز وهو منعزل منفرد عن الاخرين الى من يأنس به ايضاً...
اذن: المستوحش والمنفرد يحتاج كلاهما الى من يأنس به ولذلك فان الدعاء: اتجه الى الله تعالى ليكون لكل منهما مؤنساً وأنيساً... ولكن السؤال هو: لماذا استخدم الدعاء عبارة "المؤنس" للمستوحشين، وانتخب عبارة "الأنيس" للمنفرد؟
هذا ما يحتاج الى توضيح، وهو ما نحدثك عنه في لقاء لاحق انشاء الله.
ختاماً: يجدر بنا جميعاً ان نستثمر قراءنا لهذا الدعاء وذلك بان نتجه الى الله تعالى وليس الى البشر في التواصل، واشباع الحاجات اخروياً دونيوياً، وهو ما يتطلب مزيداً من الطاعة والتصاعد بها الى النمو المطلوب.
*******