لا نزال نحدثكم عن الادعية المباركة وما تتضمنه من بلاغة فائقة تسهم العبارات البلاغية في تعميق معنى الادعية والكشف عن نكاتها وطرافتها.. ومن ذلك: ما حدثناكم عنه سابقاً بالنسبة الى احد الادعية التي تتلى عند زيارة الجامعة، حيث ورد في الدعاء: (اللهم اجعل الصحة والنور في سمعي وبصري، والجدة والخير في طرقي، والهدى والبصيرة في ديني...).
وقد حدثناكم عن الفقرة الاولى من هذا المقطع ونحدثكم الان عن الفقرة الثانية وهي: التوسل بالله تعالى بان يجعل الجدة والخير في طرق قارئ الدعاء... وطبيعياً سوف تساءل سريعاً عن هذه الفقرة من الدعاء التي تبدو انها تعبير مجازي خالص، او عبارات مليئة بالرموز فيما يحتاج الى فك ما استغلق، وهذا ما نبدأ به الان...
العبارة التي نستهدف ملاحظتها الان هي قوله(ع) (اللهم اجعل) الى ان يقول: (الجدة والخير في طرقي)... والمطلوب هو: ملاحظة هذه الرموز الثلاثة او الاثنين وهما: الجدة، والطرق، اما عبارة الخير، فلا تحتاج الى توضيح .. فقارئ الدعاء قد يفهم على نحو مجمل بان الدعاء هو طلب للخير ... ولكن هذا المعنى الاجمالي ليس كافياً لمن يقرأ الدعاء ويحرص على فهم ما ينطق به، بخاصة ان الدعاء هو تواصل وجداني يتفاعل من خلاله قارئ الدعاء مع المضمون الذي ينطوي عليه، والأ هو بمقدور القارئ ان ينفعل ويتجاوب ويتوسل بالله تعالى دون ان يفهم ما يتوسل به... اذن لابد من ملاحظة العبارة الدعائية المذكورة أي العبارة المتوسلة بالله تعالى بان يجعل الجدة والخير في طرقنا...
نبادر اولاً الى عبارة (الجدة) فماذا تعني لغوياً؟ المعجم اللغوي يشير الى ان "الجدة" هي: العلامة... واما بالنسبة الى الطرق فمعناها اللغوي واضح ولكن المطلوب هو معرفة ما ترنوا اليه من المعنى...
ان قارئ الدعاء سوف يفهم في البداية انه يطلب من الله تعالى ان يجعل له العلامة والخير في طريقه الذي يسلكه ولكن اية علامة واية طرق؟ لا نتأمل طويلاً حتى ندرك سريعاً بان المطلوب هو: ان يتفضل الله تعالى علينا بان يرعانا وذلك بان ييسر لنا الاسباب الموصلة الى رضاه تعالى وذلك من خلال معرفتنا بالمبادئ أي التي رسمها الله تعالى لنا، وطلب منا ان نلتزم بها... ولعلك الان تطالبنا بان ندلل على هذه الحقيقة، فنقول من الواضح ان ممارستنا للوظيفة العبادية التي خلقنا الله تعالى من اجلها هي: ان نلتزم ـ كما قلنا ـ بالاحكام المرتبطة بما هو واجب وحلال او الخ...، وهذا الالتزام يتطلب معرفة تامة بحدوده... ولذلك ركز الدعاء الى جانب بعبارة "الطرق" أي: الحدود التي نتبين من خلالها معرفة ما يجب علينا ان نسلكه، لذلك توسل الدعاء بالله تعالى ان يجعل "الجدة" أي "العلامة" في طريقنا الذي نستهدف منه الوصول الى المعرفة، فاذا كان الطريق مثلاً متاهة او صحراء ... عندئذ لا نقوى على استمرارية السير فيه على غير هدى بل لابد من علامة او لافتة حتى نستطيع من خلالها ان نواصل مسيرنا الى النهاية... ولكن حتى الان، فان المعرفة لمعالم الطريق لا تعطي ثمارها الا في حالة ما اذا ارشدتنا العلامة الى ما هو "خير" لنا... ولذلك جاءت العبارة من الدعاء بهذا النحو: "واجعل الجدة والخير في طرقي"... اذن لنتحدث عن الخير وما يعنيه ... قلنا ان الخير كلمة لا تحتاج الى توضيح بقدر ما يستهدف الدعاء لفت نظرنا الى ان نوفق لاختيار ما هو خير لنا أي ما هو يقترن برضاه تعالى ... وكذلك اذا واصلنا بقية الدعاء المذكور، ومنه الفقرة القائلة (والهدى والبصيرة في ديني...)، نجد ان كلمة الهدى وكلمة البصيرة تعنيان الدرجة الاولى من فهمنا لمبادئ الله تعالى وليس مجرد المعرفة العادية... وهذا ما نحدثكم عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى.
اما الان فحسبنا ان نذكر انفسنا بضرورة ان ننفعل بقراءتنا للادعية وذلك بان نعمل بما تطرحه من الامور ومن ذلك التوسل بالله تعالى بان يرشدنا الى ما فيه مرضاته وهو امر لابد وان يقترن بالعمل وليس بالقول فحسب، ولذلك يتعين علينا ان ندرب ذواتنا على ممارسة الواجب والمندوب وترك المحرم والمكروه وتحويل المباح الى مندوب والتصاعد بعملنا العبادي الى النحو المطلوب.
*******