نتابع حديثنا عن الادعية المباركة ما تنطوي عليه من فنون البلاغة، حيث تسهم هذه في بلورة معاني الدعاء، والكشف عن طرافتها ونكاتها المتنوعة، ومن ذلك ما سبق ان حدثناكم عنه في لقاءات ماضية، وهو احد الادعية الذي يتلى بعد احدى الزيارات الجامعة للمعصومين عليهم السلام، حيث جاء فيه (اللهم واجعل الصحة والنور في سمعي وبصري) الى ان يقول: (والميزان ابداً نصب عيني، والذكر والموعظة شعاري ودثاري...).
هذا المقطع من الدعاء يتضمن جملة من الاستعارات والصور الملفتة للنظر، فاولاً نجد صورة الميزان واستحضارها امام العين الباصرة، وثانياً صورة الشعار والدثار وهما استعارتان بطبيعة الحال، حيث خلع الدعاء على ظاهرة الذكر وظاهرة الموعظة طابع الشعار والدثار.
والمهم ان هذه المجموعة من الصور تنطوي على اسرار دلالية وجمالية يجدر بنا ملاحظتها.. لنقف عن الصورة المتوسلة بالله تعالى بان يجعلنا نتصور الميزان وهو نصب اعيننا والسؤال الآن هو: ما المزيان اولاً، ثم ما هي النكتة التي تجعل من قارئ الدعاء قد وضع نصب عينه الميزان؟
الميزان سواءً اخذناه بمعناه المادي المتمثل في جهاز خاص او اخذناه بمعناه الصوري او الرمزي المتمثل في عملية المحاسبة او المحاكمة للشخصية في اليوم الاخر، فان الاستخلاص النهائي من تصوري هو ان الشخصية بما عملته في حياتها الدنيا من ممارسات خيرة او شريرة او محايدة، ستجد قائمة او كتاباً او ملفاً اذا صح التعبير امامها، وهو كتاب او ملف يتضمن احصاءً لاعمال الشخصية قد يتضخم العمل الخير او يضئول او يتماثل مع هذه أي العمل الشرير والمهم الان في ضوء الصورة التي رسمها الدعاء وهي: ان نضع ابداً نصب اعيننا الميزان المذكور هذه الصورةلها دلالتها الضخمة او رمزها الكبير في محاسبة النفس لسلوكها قبل ان تحاسب في اليوم الآخر... فانت تلحظ مثلاً ان الصورة المذكورة تطالب بان نجعل الميزان نصب اعيننا بحيث ننظر اليه وكأنه حاضر في الساحة أي ان هذه العبارة تتضمن كلاماً صورياً مختصراً كالاشارة او العلامة ولكنه يدع الشخصية مستحضرة ما هو غائب من الظواهر أي تجعل كلامنا قد تداعى بذهنه الى سلسلة من المواقف والاحداث على نحو ما سنوضحه على سبيل المثال ان أي واحد منا اذا استحضر الميزان في ذاكرته فسوف يتداعى ذهنه الى انبعاث الناس في اليوم الآخر من قبورهم، واستدعاء كل واحد منهم الى المحاكمة علنية او سرية احياناً وسوف يقف قلقاً متمزقاً خائفاًَ وكأنه سكران من شدة الساعة واهوالها، وبعدها قد يتصور ذاته وقد ثقل ميزانها بعملها الصالح، وقد يتصور عكس ذلك، ثم يتصور في الحالة الاولى دخوله الجنة وكسبه لرضاه تعالى، وقد يتصور العكس ايضاً والمهم في الحالات جميعاً اذا يترك للشخصية بان تستحضر القيامة واهوالها، حينئذ فان الاهوال المتصورة سوف تحمل الشخصية على مراجعة سلوكها.... ويلاحظ ان الفقرة المذكورة تقرر بان جعل الميزان نصب اعين الشخصية ينبغي ان يكون دواماً لنقرأ من جدية الميزان ابدأ بنصب عيني، أي ليس استحضار الميزان في حالات محدودة بل دواماً، أي منذ ان تستيقظ الشخصية من نومها والى ان تأوى الى فراشها ينبغي عليها ان تستحضر في ذهنها عملية الحساب واقتياد الناس الى الجنة او النار اعاذنا الله تعالى من ذلك.
اذن: كم هو رائع ان يحملنا الدعاء المذكور ان نتخيل عملية المحاكمة دواماً حتى نمارس وظيفتنا العبادية دواماً ايضاً أي ثمة موازنة بين ديمومة استحضار اهوال اليوم الآخر وبين ديمومة عملنا العبادي وممارستنا للطاعة، والتصاعد بها الى الله تعالى الى النحو المطلوب.
*******